السرد ومقاومة المحو في «رهائن الخطيئة» للسوري هيثم حسين

بوشعيب الساوري

يشكل الإبداع أشد أنواع المقاومة الثقافية للهيمنة وأشكال المحو والإقصاء التي تمارسها الثقافة المهيمنة على الثقافات الأخرى. وتبقى الرواية، باعتبارها جنساً أدبياً مفتوحاً يثري إمكاناته كل حين، الأقدر على مواجهة كل أشكال الهيمنة والإقصاء والمحو، نظراً لرهانها على السرد الذي يستقصي الذاكرة ويُعيد الاعتبار لما هو في طور المحو والزوال وللمسكوت عنه والمهمش وما كان في طي الكتمان.
في هذا المنحى تنخرط رواية رهائن الخطيئة للكاتب السوري هيثم حسين، إذ تنشغل بمعانقة الهوية الجماعية للأكراد الذين مزقتهم الحدود التركية السورية، وتبرز معاناة جماعة معينة نتيجة أخطاء سياسية ظلت رهينة لها، وتسبر أغوار موضوعات شتى تدور في فلك التذكر والهوية والقومية والتاريخ المنسي، لتجعل من نفسها مناصرة للحق ومقاومة لكل أشكال السطو والمحو، إذ كانت صرخة سردية ضد النسيان والتهميش.

1/ رهائن المعاناة والتمزيق

تجري أحداث رواية رهائن الخطيئة، زمانياً في الستينيات من القرن العشرين، ومكانياً على الحدود بين سوريا وتركيا، وتنشغل، بشكل خاص، بوضع الأكراد بعد اتفاقية السايكس بيكو التي قسمتهم بين سوريا وتركيا، مثيرة ما عانوه من تمزيق جغرافي وأسري، وتُسلط الضوء على ذلك من خلال التركيز على حياة أسرة كردية كانت تعيش على الحدود وتعاني التهميش وقد أمعن أفرادها في التجوال والتمزق واليتم والعجز عن الفعل وعدم القدرة على مواجهة تغيرات الواقع وانهياراته المتسارعة، وتكتفي، فقط، بالحسرة على ما فقدته.
تنطلق أحداث الرواية بدخول خاتونة جيايي إلى عامودا، قادمة من تركيا على الحدود بين سوريا وتركيا، بعد انهيار الوحدة بين سوريا ومصر، على وقع مواقف الناس المتضاربة من ذلك السقوط، وهي آتية بابني أخيها: أحمي وعلو اللذين كان يعتقد الجميع أنهما ابناها، وظلت كاتمة هذا السر حتى قبيل موتها. وقد تحين الكاتب هذه اللحظة لاستحضار أوهام الوحدة التي كانت متفشية آنذاك، كالوحدة العربية والوحدة الكردية والوحدة الشيوعية التي كانت بعيدة عن الواقع وظلت مجرد آمال تعثرت في أولى خطواتها. يقول: «كان الكردي يهتف في السر والعلن، إلى وحدة وتحرير كردستان، معتمداً على الآمال وحدها، مبتعداً عن الواقع وعن كارثية ما حل به.. فبقي قسم كبير أسرى شعارات كبرى أقعدتهم.»( الرواية، ص7.)
وذلك في أطار سياق سياسي واجتماعي مفعم بالتفقير والتجويع والاستبداد والقحط والفقر، سياق يسحق فيه المستبد الضعيفَ. يقول: «في تلك السنوات، التي لم تختلف كثيرا عن تلك التي سبقتها، كما لم تختلف عن تلك التي تلتها أيضاً، حيت بقيت السمات المميزة لها، الفقر، الجوع، البطالة، الظلم، هذه التي هي نتاج الاستبداد الممارس، وحصيلة طبيعية لاستمرار غير المناسب في المكان المناسب.» ( الرواية، ص9.) سياق مشحون «في ظل هذه الأجواء الممتلئة بالضغط، والضغط المضاد، بالاحتكار والتكنيز، بالابتزاز والاستغلال، ببحث كل واحد عن مصدر يمنحه ربحا أكثر، يبرز ابنا الجدة خاتونة، الصوفيان علي واحمد، المعروفان شعبيا ب: علو واحمي» (الرواية، ص12.)
وقبل استقرارها بعامودا خضعت خاتونة لتجوال قسري بين مجموعة من القرى الكردية. وبعده اضطرت للاستقرار على الهامش وفي التخوم «بقيت أياماً حتى تنبه الناس إليها مع ولدين صغيرين معها، قد خيمت بعيدا عن البيوت.» ( الرواية، ص8) وعاشت كأسرة صغيرة على الهامش، في وضع مزر يظهره تأثيث البيت.
وظلّت لغزاً محيراً بالنسبة لمن حولها. واحترفت الاشتغال كمولدة للنساء واشتغل ابنا أخيها أحمي وعلو حمالين وعتالين. بعدها تزوج علو وأنجب طفلا سماه هوار الذي كان ثمرة زواج من أب قادم من منطقة سرختي ب“تركيا”، ومن أمّ من منطقة بنختي بسوريا، ليكون بذلك إحياء للتقارب بين المنطقتين اللتين مزقتهما السياسة ويشكل بذلك أملاً في تجاوز التمزيق.
وتوّج علو وأحمي كدهما بشراء دكان في سوق «العرصة» في عامودا طامحين في تحسين وضعهما الاجتماعي والاغتناء، من خلال احتكار كمية كبيرة من البصل بعد أن وصلتهم أنباء عن انقطاع وشيك للبصل عن المدينة، فجمعا، بشتى الوسائل، كميات كبيرة من البصل، منفقين على ذلك ما ادخراه طوال سنين من الكد كعتالين. ورغم محاولات الأخ الأصغر «أحمي» الكثيرة، بإقناع أخيه الأكبر، ببيع تلك الكميات من البصل قبل أن يصيبها مكروه لكن دون جدوى. فاحترق الدكان بما فيه من بصل، لتظل رغبة تحسين وضعهما مجرد أمل عاجز عن التحقق. لتؤكد الرواية على فشل وتلاشي آمالهما؛ فكل مشروع دخلاه تكون نهايته الفشل. وقد ساهمت حادثة إحراق البصل في تفريق الأخوين، إذ عاد علو إلى كده عتالاً واختار أحمي الرحيل إلى المكان الذي قدم منه، هو وأخوه، مع جدته، حينما كانا طفلين لتنقسم الأسرة ويظل حلم جمعها قائماً لدى خاتونة .
كان الطفل هوار ثمرة زواج علو الذي أراده أن يصبح متعلماً كي لا يعيش مأساته ومأساة أخيه. فكان هوار بمثابة صرخة استغاثة تحاول إعادة الاعتبار لما عانته أسرته من تشتيت وتهميش وما تكبده أجداده من تمزيق وتشريد وقد كان مختلفاً عن أبيه وعمه إذ كان على وعي بالمشكلة التي عانى منها أجداده وذلك راجع إلى اقترابه من أستاذ علمانيّ، هو من اختار له اسم هوار والذي يعني في اللغة الكردية «الصرخة» يقول: «أتمنّى أن يجسّد اسمه، ويكون صرخة رفض، لما عاناه أجداده، ويشعل ثورة، وناراً، على من شرّد أهله، وخلقوا منه مهاجراً، لاجئاً، في كلّ مكان، يلتجئ إليه.» (الرواية، ص21.)

2/ السرد ضد المحو

تراهن الرواية على محاربة المحو، كما أكد الكاتب، عبر بعث الذاكرة التي تعمد نسيانها، لتضطلع بدور التاريخ عبر إعادة الاعتبار لأسر مهمشة ومنسية وإتاحة الفرصة لمن أسكتهم وأهملهم التاريخ، من خلال تبئير السرد على أسرة خاتونة ومصائر شخصياتها الهامشية التي كانت تعيش على التخوم. وهو ما جعل الرواية صرخة مقاومة وانتقاماً من الصمت، تروم ملء فراغات التاريخ وفجواته. يقول: «وكأنه يتلو وصاياه، أو ينتقم لتاريخ أصمته، ولجور يتأمل تعويضه في الآخرة، لكنه استدرك قبل أن يكمل سرد تاريخ من الصمت والانزواء.»(الرواية، ص49.)
عاشت خاتونة التشرد بين القرى والتشتت من خلال تشتت أسرتها، التي صار اجتماعها لحظياً وقصيراً ومنفلتاً، وهو تشتت يؤكد تمزق الأكراد وخيبة أملهم في الاجتماع رغم العديد من المحاولات. ومن ذلك مثلاً رفض أحمي العودة إلى سوريا مع ابن أخيه ومع جدته. ليبقى الاجتماع مجرد أمل عاجز عن التحقق.
تعاني أغلب شخصيات الرواية من اليتم الذي يعبر عن الإقصاء والتهميش بترك الشخصيات تواجه مصائرها القاسية، «علو»، «أحمي»، زوجة احمي، و«هوار» الذي اكتوى بنار اليتم، اذ عاش يتيما، كما عاش عمه ووالده، يقول:»اجتاحت روح هوار، كالعادة المشاعر المتناقضة، كان شديد الفرح وفي غاية الكآبة والألم في آن[…] انتابه شعور باليتم، زلزله، ودّ لو كان له أخ أكبر أو أصغر منه كي ينعم بأخوته وصداقته». (الرواية، ص103.)
واكتوت الشخصيات أيضاً بالغربة، الخاتونة، أبناؤها، صهر «أحمي»، «هوار» والأستاذ، وهي تشخيص ضمني لغربة الكردي في أرضه التي مزقتها السياسة. يقول: «أي ديار سيعود إليها، وهو المنفي في كل ارض تطؤها قدماه، أي ديار تلك التي تتحدث عنها، وهو الغريب ابن الغريبة في كل قرية يزورها». (الرواية، ص115) وأصبحت المآسي متجذّرة في سلالتها، انطلاقاً من موت الجد على أيدي اللصوص، وموت «علو» إثر سقوطه من فوق أكياس القمح. وتستمر المآسي بتعرض الأستاذ للتعذيب والاختفاء وذهاب «احمي» إلى قرية أخرى في تركيا.
وقد شكلت عودة الصوفي أحمي إلى الطرف التركي، نقطة مهمة في الرواية، حيث فتحت المجال للوقوف بشكل فعليّ، على من وقعوا رهائن للخطيئة، التي تمّ بموجبها وضع أسلاك شائكة مكهربة، وألغام في طرفي أرض، لم تكن تقبل – سابقاً- مثل هذه القسمة، ومن خلال هذه العودة التي يقول عنها الروائي في الصفحة: «كانت الوجهة معكوسة، والزمن لم يكن خؤوناً بكل هذا العهر الذي يخون به الآن». (الرواية، ص81) وقد تمت عودة الصوفي أحمي بطريقة غير شرعية، لا تعتمد على جواز السفر، ولا تعترف بها، معتبرة أنّ تلك الأسلاك، لا تشكّل إلا منغصّاً مؤقتاً، لا بدّ أن يزول في أقرب الآجال. ويتم من خلال هذه العودة تسليط الضوء على الأوجاع التي خلفها وضع تلك الحدود، بالنسبة لسكان لم يعرفوا من قبل شيئاً اسمه الحدود.
تقتل خاتونة جيايي التي ظلت تعتقد أنها تتجول في أرضها، وهي تحاول اجتياز الحدود السورية التركية نحو سوريا بطريقة غير قانونية برصاص حرس الحدود، وذلك في واضح النهار، وقد أحسن الروائي بإنهاء روايته بموت خاتونة على الحدود. لأن مقتل الجدة على الحدود هو قتل للامتداد وللأمل. وهي تحتضر تبوح لهوار، الذي كان يعتقد أنه حفيدها، بما سكتت عنه لسنوات كثيرة، وهو أنه حفيد أخيها، حين أكدت له أن جده، وأخاها في الوقت نفسه، كان من الأكراد، الذين حاربوا الحكومة التركية في إحدى التمردات، وصدر في حقّه حكم اعتقال غيابي، ولم يعد إلا بعد إصدار العفو. وأخبرته بأنها ليست جدته، وإنما عمة والده، الذي قتل مع جدته، على أيدي أناس كانوا يعتقدون أن جدّه قد أتى بأموال كثيرة، على غرار الكثير من الجنود الأتراك، الذين شاركوا في الحرب الكورية، فاقتحموا منزله، وقتلوه هو وزوجته، ففرّت خاتونة إلى عامودا بابني أخيها علو وأحمي هرباً من القتل.
كان لنهايات مصائر الشخصيات دلالات هامة في الرواية، يمكن تلخيصها في دلالة مركزية وهي استمرار التمزق الكردي؛ إذ يموت الصوفي «علو» في سوريا، ويعيش الصوفي «أحمي» في تركيا، بعد عودته من سوريا، وتموت عمتهما على الحدود، بعد فشلها في إقناع الصوفي «أحمي»، بالعودة إلى عامودا، ومتابعة الحياة، كأسرة هناك.
ويترك المصير مجهولاً، بالنسبة لهوار الذي لم تحدد الرواية وجهته، لا إلى سوريا ولا إلى تركيا، ففي كلا المكانين، يستطيع أن يقطن، ولكن أن يعيش بالقرب من تلك الحدود، فهو غير مسموح به.
وقد تجلّى رهان مواجهة المحو والنسيان في رحلة هوار التي كانت محاولة للتعرف على العالم المنسي والمهمل والذي سكت عنه التاريخ الرسمي وتعمد تهميشه، باستحضار معالم الحضارة التي كانت هناك من خلال آثارها الدالة عليها. وهو ما أتاح الفرصة لحضور المحكي التاريخي الذي حاول تسليط الضوء على التاريخ الحضاري للمنطقة. وقد اطلع بهذه المهمة الشاب «هوار» الذي حاول جمع معلومات عن داري والذي استغرق حوالي 12 صفحة من الصفحة 89 إلى الصفحة 101 من الرواية. كما حاول الروائي التأكيد على المحلية بالتركيز على حياة بعض الأكراد البسطاء وعاداتهم في العيش والسكن والكلام واللباس والتدين والأمثال والحكم وبشكل خاص لدى أسرة خاتونة وابني أخيها.
وستملأ الفراغات والفجوات بالنسبة لهوار من خلال ما حكته خاتونة وهي تحتضر. يقول: «كأنها استلهمت الموت لحين انتهائها من سرد تاريخ لا بد من سرده، لم يكن لديها وقت لتسال هوار عن حزنه الكبير، هل كان أسفه على فقدها أم على عدم تمكنه من معرفة تاريخ أجداده. من كانوا. لماذا تشردوا؟ لماذات كثيرة كانت تفككها له تباعاً.» (الرواية، ص 144) وانسجاماً مع إيلاء الرواية الاهتمام للمهمشين والمقصيين، تميز أداؤها السردي بحضور محكي الشطار، من خلال تركيزها على شخصيات مهمشة ومقصية تحاول بشتى الوسائل البحث عن قوتها، الخاتونة، «علو» و«احمي»، «هوار» والرعيان.
هكذا حاولت رواية رهائن الخطيئة، من منطلق كون الإبداع مقاوماً لكل أشكال الهيمنة والإقصاء، تسليط الضوء على شخصيات كانت رهائن للتمزيق والتشريد والتهميش على الحدود بين تركيا وسوريا، وإعادة الاعتبار لما سكَت عنه التاريخ وسد ثغراته، عبر رهانها على أن السرد مقاوم لكل أشكال المحو. هيثم حسين، رهائن الخطيئة، دار التكوين، سوريا، 2009.
كاتب مغربي

عن صحيفة القدس العربي

© Copyright 2020. All Rights Reserved