هيثم حسين: امضِ بعيدًا ولا تخشَ المغامرة
لعل من الصعوبة بمكان أن يضع أحدنا نفسه موضع الناصح، في حين نظل نبحث عن الاستنصاح طيلة مشوارنا، ونؤمن بجدواه، ذلك أن النصيحة قيمة معتبرة من قيم تقدير الذات والآخر، وهي صيغة من صيغ مشاركة الآخرين عقولهم وتجاربهم، عسى أن تساهم باستلهام العِبر منها.
أذكر أنني حين نشرت روايتي الأولى قبل أكثر من خمس عشرة سنة، وكنت عملت عليها أكثر من ثلاث سنوات، اصطدمت بمحيطٍ لا يقرأ، ولا يقيم وزنًا للكتابة، بل وحاول بعضهم أن يدس سموم اليأس في روحي بالحديث عن تغير العالم، وأن أحدًا لم يعد يقرأ، وأنني أضيع وقتي في فعل ما لا يعود علي بأي إيراد مادي. كانت الانطباعات عن الإقدام على النشر في عالم لا يهتم بالكتابة والقراءة، بل ويحارب الكُتاب بأساليب مختلفة، تشير إلى جنوني وغربتي ومغامرتي غير المحسوبة في مواجهة السلطات السياسية والاجتماعية والدينية في البلدة الصغيرة التي كانت مسرح الأحداث في روايتي وحياتي حينها.
وأذكر أيضًا أنني طلبت من أحد الكُتاب من الجيل الذي سبقني نصائح للتواصل مع الصحف ودور النشر، وكان من حقبة ما قبل الإنترنت، فأغرقني بشكاواه، وقال لي إن الكتابة أبقته فقيرًا ولم تجلب له سوى وجع الرأس. كان محبَطًا، ومثيرًا للشفقة في الوقت نفسه. لم أرد لنفسي تلك الصورة البائسة عن الكاتب، لكنني كنت أوقن بأن هناك دروبًا جديدة يمكن أن أبتكرها أو أكتشفها في رحلتي الخاصة في ميدان الكتابة.
إذا كان لي أن أسدي أي نصيحة، فلربما أذكر نفسي بها وأنا أشاركها الآخرين، وأبدأ هنا بالتركيز على أهمية الصبر في رحلة الكتابة. اللجاجة لا تنفع، العجلة لا تجدي. ابتعد عن أوهام التسابق، فأنت لا تتسابق مع أحد حين تكتب، أنت تعبر عن شغفك، وعشقك، تعيش سعادتك بالإبداع، لا ترهق نفسك بضغوطات التحقق، فتراكم الإنجازات يحقق صورتك ككاتبٍ متبلور، وليس عبر ضربة حظ قد تأتي أو لا تأتي.
استمتع بما تكتب. لا يمكن لأحد أن يسلبك متعتك وأنت تكتب، لذلك عليك أن تعيش متعة الكتابة، حين لا تقع فريسة القلق الذي يتناهب الكاتب قبل وفي أثناء انغماسه في نصوصه، فالمتعة والاستلذاذ بفعل الكتابة من أسرار الإبداع الناجح، ويمكن أن يشعر بهما القارئ ويتلمسهما وهو يقرأ منمنمتك التي اشتغلت عليها بصبرٍ وهدوء.
إذا كنت تبحث عن الشهرة والثراء السريعين، فلا شك أنك أخطأت الاختيار، وستنتظرك فخاخ اليأس عند كل مفترق كتابي. عالم الكتابة يفتح الكثير من الأبواب، هناك تفرعات تغرق في دهالير التشاؤم، وهناك أروقة تمضي في فضاءات الحلم والأمل. الإيمان بما تفعل هو غاية بحد ذاتها، درب الكتابة مفعم بالجماليات التي تعيشها وتستمتع بها في سعيك نحو المثال المنشود.
يمكن أن تصل في رحلة الكتابة إلى نقاطٍ تشعر فيها بلا جدوى ما تفعله، وهذه من المشاعر الطبيعية التي قد تتناهب أي كاتب، لكن من الضروري أن تعمل على تطويعها لصالح الكتابة، وتستخرج منها محفزات للانطلاق، لأن الارتكان لها يعني تعديمًا للأمل، وتقليلًا من شأن الذات وقيمة الكتابة وعظمتها.
لا تكترث لمن قد يحط من شأن ما تفعل، ولا تلتفت لليائسين الذين يحاولون سد السبل أمامك، أو إبعادك عن عالمك الذي تشعر فيه بالانتماء والسعادة، واظب على الكتابة، افشل بأسلوبك وعلى طريقتك، لا تخشَ مما قد يسمى فشلًا في عالم الكتابة، لأنه صيغة من صيغ النجاح، يُعبد الطريق أمامك، يكشف لك المزيد عما تختزنه وما يمكن أن تبدعه. امضِ بعيدًا، اتبع قلبك، ثق باختياراتك ولا تخشَ المغامرة.. لا تنسَ أن الكتابة علاج، وينطبق عليك ككاتب المثل القائل: كمن طب لمن حب. فحين تكتب بحب تساهم بتطبيب الأرواح وجَبر ما قد يتسرب إليها من كسور بفعل التجارب والزمن. وكتابتك كنزك التاريخي، وشجرتك الحياتية التي تحتاج منك إلى السقاية والرعاية والحرص والاهتمام والحب.. قد تتأخر أحيانًا مواسم التقدير والتكريم والتتويج، لكنها لا يمكن أن تلغي إرثك الإنساني.
تذكر أن عملك يتجاوز الآني، يروم الخلود ويبحث عنه، ورحلتك مع كتابك لا تنتهي بنشره، بل هناك محطة جديدة تبدأ، وعليك أن تحسن التعاطي معها. لا تعش بعيدًا عن الواقع. كن منخرطًا فيه واحفظ استقلاليتك عنه في الوقت نفسه، افهم موقعك واعرف موضعك وراقب ولا تنسَق وراء الموجات العابرة. لا تكن مناسباتيًّا، ولتكن كتابتك مناسبتك المشرقة ومعجزتك الحياتية المتجددة. حاول أن تكون متجذرًا راسخًا، وآمن بأن إبداعك يحميك ويسندك كجبلٍ شاهق. وتذكر أيضًا أن تكون واقعيًّا.. وتطلب المستحيل.
عن موقع منصة تكوين