بثينة العيسى تعيد تشكيل الهامش الذي سقط في غمرة الأحداث

هيثم حسين

تحيد الكثير من الروايات التاريخية عن كونها تأريخا حقيقيا للأحداث، وتنتهج دورا آخر هو التخييل التاريخي، وهو كما يقول الناقد المغربي سعيد يقطين “قابل لأن يتضمن أنواعا فرعية مع الزمن”، وهذا ما نجده ماثلا في رواية الكاتبة الكويتية بثينة العيسى الجديدة “السندباد الأعمى.. أطلس البحر والحرب” التي لا تقترح مادتها نصا تاريخيا بل تقدم وجهة نظر أخرى من زوايا أخرى للتاريخ والأشخاص والأحداث.

تشكل النقائض التي يعج بها التاريخ والواقع سواء بسواء مادة دسمة للروائية بثينة العيسى في روايتها الجديدة “السندباد الأعمى.. أطلس البحر والحرب” التي تربط فيها بين زمن الغزو العراقي للكويت سنة 1990 وزمننا الراهن؛ أي في وقت اجتياح جائحة كورونا لعالمنا وما خلفته وتخلفه من تداعيات على مختلف الأصعدة.

لم تسع العيسى للي عنق التاريخ وتطويع أحداثه من أجل تركيب أحداث روايتها، بل انتقلت إلى الهامش الذي عادة ما يسقط في غمرة الأحداث الكبرى العاصفة، وسعت لتوثيق الكثير من مفارقات الهوامش والشخصيات التي وجدت نفسها في أتون المتغيرات من دون أن يكون لها رأي أو قرار في ذلك.

تلتقط منذ البداية مفارقة المفاهيم والمصطلحات في واقع عبثي غرائبي، حيث تتصادم مفردات الاحتلال والحرية وجها لوجه في اشتباك معنوي يشير إلى ما يليه من اشتباكات على أكثر من جانب، وفي العديد من المواقف، بحيث يكون الصراع محورا فاعلا رئيسيا بين الشخصيات وواقعها وما يشتمل عليه من تناقضات بدوره من جهة، وبينها وبين أنفسها في الوقت نفسه من جهة أخرى.

ولم تضع الحرب أوزارها في نفوس شخصيات “السندباد الأعمى” التي ظلت مسكونة بالمرارة والقهر والأسى والاغتراب عن كل ما يحيط بها، وكأنها أصبحت ملعونة بلعنة الحرب التي لا يمكن أن تزيلها، وتسعى جاهدة للتحرر منها من دون أي جدوى، فتراها ترتضي المكوث في قعر هاوية اليأس تنسج حكايات القهر والغدر والخيانة والبؤس.

شخصيات معطوبة

عمى البصائر يغرق البشر المتحولين إلى أضداد متعاركة
عمى البصائر يغرق البشر المتحولين إلى أضداد متعاركة

يأتي الاستهلال الروائي ضاجا بالمفارقات وصادما “في ذلك اليوم، عندما كان جيش الاحتلال يتوغل في ضواحي البلاد، معلنا امتلاكه للبحر والأرض والسماء، للأطالس والمعاجم والتاريخ، وبينما كانت البلاد بأسرها تتحول إلى سجن كبير، فوجئ نزلاء السجن المركزي، وحدهم، بالحرية”.

يصدم أبناء البلاد ويفجعون باجتياح الاحتلال في حين أن السجناء يصدمون بخبر حريتهم التي تنزل عليهم كصاعقة، أو صفعة غير متوقعة، فيكون التبلبل بالموازاة مع الحيرة عنوانا لحركاتهم وتصوراتهم، يخشون مما يجري وفي الوقت نفسه يهربون إلى خارج أسوار السجن، من دون أن يدركوا حينها أن البلاد كلها تحولت إلى سجن كبير وحشي قاس.

تختار العيسى من بين السجناء الخارجين من السجن شخصية نواف، تقتفي أثره، وتبني عمارتها الروائية انطلاقا من حدث الحرية المباغتة التي تصدمه وتعيده إلى واقع مختلف، وكأنه عائد من زمن آخر بعيد أو ملقى به في مكان موحش غريب لا ينتمي لمكانه الأصلي بصلة.

وتنتهج مبدعة “كل الأشياء” في “السندباد الأعمى” استراتيجية متناغمة في العنونة، ابتداء من اختيارها عنوانا فرعيا “أطلس البحر والحرب” مكملا للعنوان الرئيسي ومتجاورا معه بحيث ينفتح على دلالات وتأويلات مختلفة، توحي بالحب وتومئ إليه ولاسيما في طيات كلمتي البحر والحرب، إذ تكسر الثنائية التي تتكرر عادة بالحديث عن الحب والحرب، ليكون استحضار البحر بدلا من الحب وإيراده لتفتح كوى على لعبة التأويل والتخييل في هذه الحالة.

الرواية تقدم شخصيات معطوبة قلقة تائهة في بحار من الحيرة وفي حروب من المواجهات المحتدمة في دواخلها

ثم تأتي الفصول التي ترسم مخطط الرواية، ابتداء بالفصل صفر “المارد خارج القمقم”، مرورا بالفصول التالية “قلب حورية البحر”، “الطوافة والطوفان”، “السندبادان”، “في بطن الحوت”، “أسراب طائر الرخ”، “القنطرة”، وصولا إلى “ورقة لاصقة على مغلف” التي تتبدى ملاحظة خاصة من بطلة الرواية، بحيث تحضر كفصل ختامي من دون أن تسبق بكلمة فصل، كأنها تضعه في خانة الخاتمة للفصول، وتقفل به دائر الأطالس التي تقتحم عبرها ثنيات في التاريخ وخبايا منثورة هنا وهناك على قوارع دهاليزه.

وتتكامل الصورة الرئيسية على الغلاف مع العنوان ومع تفاصيل وأحداث ترد في سياق الرواية، بحيث يكون القط الأعمى، أو الذي تم إلصاق لاصقتين على عينيه للدلالة على انعدام الرؤية لديه، حاضرا من خلال القط الذي تتسلى به الطفلة في عتمة الحرب، ويكون ترميزا بدوره على العتمة التي ألقت بظلالها على البلد برمته وعلى أبنائه الذين كانوا بمثابة أبناء السندباد الأعمى نفسه.

العمى يكسر الحالة الجسدية والمباشرة لينتقل إلى عالم آخر، يقود معه الشخصيات إلى ظلمه وظلامه، عمى البصائر يغرق البشر المتحولين إلى أضداد متعاركة في واقع العبث والاحتراب والاستغلال والابتزاز والضياع، يلقي بكوارثه على الجميع ويخيم بكلكله المفجع ليتحول إلى أسلوب حياة في فترة الاحتلال التي تظل جرحا نازفا في تاريخ المنطقة ليس من السهولة ترقيع ذكرياته أو تناسي تأثيراته المدمرة.

وتصور العيسى عبر شخصيات أبطالها جميعا مراحل مختلفة في تغير البلاد والنفوس معا، وتكون شخصياتها النسائية حاضرة بقوة أكبر ومحركة لأحداث التاريخ المهمش، بحيث تتصدر الخيبات المتناسلة وترتحل بها ومعها من زمن إلى آخر، وكأنها إرث تتناقله من جيل إلى جيل، من نادية إلى مناير ومن ثم إلى هدى، وقبلهن الجدة المفطورة الفؤاد المسكونة بهواجس العودة إلى حياة سابقة هادئة، لكن من دون أي جدوى.

نادية رهينة الحب المتعامي عن ماهية الحب، ضحية قيود الواقع واشتراطاته القاسية، تتزوج من صديق حبيبها الذي ينأى بنفسه عن مواجهة حبه وواقعه، ويحاول الالتفاف عليه وتحويره وكأنه تهمة نتيجة اختلاف الطائفة، ولا يسعى لتحطيم تلك القيود التي تكبل حبه وروحه فيقع أسيرها طيلة حياتها ويوقع نادية في متاهة اللاحب واللايقين واللاانتماء معا.

مناير التي تستعيد ذكرى الأم المغدورة تقف شاهدة شهيدة بدورها على مجريات القهر وسرديات الأسى، تقع في فخ الخيبة أيضا، ترث المرارة وتورثها لهدى، بحيث لا يغيب خيط القهر ويبقى متناسلا متسلسلا عبر أجيال النساء اللاتي لم تغير الحرب ولا الكوارث من حقيقة قهرهن والتضحية بهن على مذبح تاريخ ماكر وواقع متغول لا يرحم.

شخوص تائهة في بحر من الحيرة
شخوص تائهة في بحر من الحيرة

وفيما يصح توصيفه بالبداية التالية للمفتتح الروائي، تكثف الروائية التغيير الرهيب الذي وقع بقولها “حتى ذلك النهار، كان كل شيء في مكانه؛ البشر على اليابسة، السمك في البحر أو في المقلاة. لم ينقلب العالم رأسا على عقب، ولم تبدأ مناير في الاختفاء”.

ثم تنتقل بعد ذلك لاستكمال تصوير الانقلابات الحاصلة في الوجود نفسه، وكيف أصبح التيه وجودا موازيا كئيبا موحشا لا طاقة على مواجهته أو مقارعته، حين تكتب “كان البحر الذي تحول من الأزرق إلى الزئبقي يشبه مرآة مترامية، والسماء مرآة، وبين المرآتين المتقابلتين، كان الوجود متاهة.. لكن لم يخطر لأي منهم أنه كان تائها. إلا أنهم على وشك اكتشاف ذلك”.

لا مفر للشخصيات من الوقوع في براثن التيه، بحيث تغدو فرائس للعدم نفسه، لا من منطلق السكنى في العدمية أو استدراج فلسفة العدم إلى واقع الحرب، بل من جهة التشكك الذي قلب كل شيء وأوقع الجميع في مستنقع المتاهات التي عصفت بهم وحولتهم إلى نزلاء الجحيم.

وتصف العيسى الخوف الذي يتلبس شخصية من شخصياتها وصفا مؤلما يجمع بدوره بين الأضداد بطريقة لافتة، وذلك حين تقول “بدأ الخوف يتفتح في أعماقها، مثل جرح مزهر بألف تويج. احتلال، حرب، غزو. إنها لا تستطيع تصويب الحجارة على الدبابات، إنها لا تستطيع تصويب غطاء قنينة في سلة قمامة. الأرجح أنها سوف تموت”.

الخوف كالعمى يكون صيغة من صيغ الوجود، أو ربما صيغة من صيغ العدم في عالم الرواية، تراه ينسف بنية الشخصيات ويغربها عن نفسها وواقعها، يدفعها إلى تخوم المواجهة مع الذات ومخاوفها ووساوسها وجراحها النازفة.

وتقدم العيسى في روايتها شخصيات معطوبة، قلقة، تائهة في بحار من الحيرة وفي حروب من المواجهات المحتدمة في دواخلها، تصبو إلى سكينة مستبعدة، وإلى هدوء محلوم به لا يكاد يطال، لذلك تمعن بالإغراق في سوداويتها وعتماتها، وتوغل في جلد الذات حينا وجلد الأمنة والأمكنة والآخرين في أحيان أخرى.

اللعبة الروائية

الخوف صيغة من صيغ الوجود
الخوف صيغة من صيغ الوجود

تشتغل صاحبة “حارس سطح العالم” على الذاكرة وما تنضح به من جماليات وما تختزنه من فجائع تشكل علامات فارقة في روايتها، تتكئ عليها برسم مسارات شخصياتها وتتقصى الدروب التي قادتهم من ضياع إلى ضياع أشد عتمة وإيلاما.

تسرب الروائية الحيرة التي تغلف شخصياتها إلى قرائها في الختام، وذلك في “ورقة لاصقة على مغلف”، إذ تثير الشكوك في كل ما كان وما هو كائن، تتوجه بطلتها مناير إلى خالتها، تخبرها أنها صارت تعرف بأن اسمها (الرواية) ليس مناير كما أن اسمها (المخاطبة) ليس فاطمة، وما من اسم هنا كما هو في الواقع، وتصف الأمر بأنه نوع من قلة الحيلة.

الرواية تشتغل على الذاكرة وما تنضح به من جماليات وما تختزنه من فجائع تشكل علامات فارقة في روايتها

وقلة الحيلة هنا ليست اعترافا بعجز الخيال الروائي عن خلق عوالم بديلة أو موازية، لأن الروائية نجحت إلى حد بعيد في ابتكار عوالمها وتأثيثها بالوقائع والذكريات والتواريخ، بل هو نوع من الاعتراف بقلة حيلة الواقع نفسه ربما أمام محن التاريخ ومآسيه المريرة.

وتواصل العيسى لعبة الإيحاء والتخييل على لسان مناير التي تخبر خالتها في رسالة لن تصل، بحسب ما هو مفترض، بأنها تعلم أنها تريد معرفة ما حل بأخيها، وأنها تعتقد بأنها كتبت رواية كي تجيب عن سؤالها، رغم أنها لم تفعل.

وتمضي العيسى في ضخ الروح في الشكوك والافتراضات ودفع القارئ لتخيل سيناريوهات بديلة بقولها “ربما هذا ما حدث، أقول أحيانا. لكن لا بد وأن هذا هو ما حدث. أليس كذلك”. وهنا حدوث الرواية من عدمه أمر مختلف، فالرواية حدثت وأحداثها دونت ووثقت وتمكنت من خلق عالمها المثير والغريب، والتشكيك يمنح خيوطا لبدايات لاحقة ولا يضع نقطة نهاية متوقعة، بل يبقى مثار تحفيز للبحث عما كان وما لم يكن، وإن كان عبر إبقاء دائرة اللعبة الروائية مفتوحة على التأويلات أو الاحتمالات.

وتغتني الرواية بالكثير من التفاصيل والتقنيات التي تضفي عليها أبعادا متجددة وتمنحها قدرة ومرونة وتميزا، وتضعها في لائحة الروايات المميزة المستلهمة لوقائع تاريخية بتخييل جمالي لافت، وبلمسة إبداعية جلية.

* المقال ينشر بالاتفاق مع مجلة “الجديد” الثقافية اللندنية

© Copyright 2020. All Rights Reserved