الفلاسفة المعاصرون يكشفون عن ميلاد عالم جديد
هيثم حسين
داهمت جائحة كورونا العالم بشكل مفاجئ، فأربكت حركته، وعطّلت اقتصاداته، وفرضت عزلة غير مسبوقة على المجتمعات التي وجد أفرادها أنفسهم في مواجهة مباشرة مع حالات جديدة، تتطلّب منهم توحيد الجهود للتصدّي لها، والتركيز للتغلب عليها، بغية إعادة تحريك مسار العالم المغلق حتّى إشعار آخر، بانتظار ما ستسفر عنه الجهود، وما ستنتجه العقول البشرية لمعالجة الوباء وتخطّي المحن التي تسبّب فيها.
أرغم الوباء الذي يعتبر اختبارا وجوديا، وامتحانا مصيريا للبشرية، جميع الناس، في كلّ مكان في المعمورة، على مواجهة أسئلة عميقة حول الوجود البشري، أسئلة سبق أن حاول الفلاسفة السابقون تقديم رؤاهم وتصوراتهم وآرائهم عنها بسبل مختلفة.
من تلك الأسئلة التي أثارها الوباء لدى الفلاسفة والمفكرين: ما هو الصواب و ما هو الخطأ؟ ما الذي يمكن للأفراد توقعه من المجتمع، وماذا يمكن للمجتمع أن يتوقع منهم؟ مَن يجب أن يُقدِم على تقديم التضحيات؟ هل تفي إجراءات العزل والحجر في إيقاف انتشار الوباء؟ إلى أي حدّ تكون فكرة إغلاق الحدود وخطة اقتصادية مجدية مؤثرتين على الصعيد النفسي لمكافحة الوباء؟ هل احتار الفلاسفة في تفسير الجائحة وتأثيراتها أم أنهم لم يستوعبوا الصدمة بعدُ ليتدبّروا فيها؟ ألن يكون أي تحليل فلسفي نزوعا منطلقا من تسرّع لا يناسب بنية الفلسفة التحليلية المتأنّية؟ هل نشهد نهاية تاريخ وبداية آخر، ولكن هذه المرة ليس على طريقة الأميركي فرانسيس فوكوياما صاحب “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”.
ساد نوع من الاختلاف حول المقاربة والتعاطي مع الجائحة وتأثيراتها من قبل الفلاسفة المعاصرين الذين حاول كلّ منهم تفكيكها ومعالجتها وتناولها تبعا لأدواته الفلسفية، وتوجهاته الفكرية، سواء كانت منتمية إلى هذا الاتجاه أو ذاك.
حرب على البشرية
هل البشرية في حرب؟ سؤال حرّض الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه الذي عقّب على توصيف ما تواجهه البشرية بالحرب من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وذلك في حوار مع مجلة لوبوان الفرنسية، بالقول “لسنا في حالة حرب أو لعلها تبدو حربا وهمية، إن استخدام المصطلح من قبل ماكرون في ما يتعلق بوباء كورونا لا يتناسب مع الواقع، تذكروا الحرب العظمى 1914 – 1918: أكثر من 20000 قتيل في اليوم الأول.. لحسن الحظ، نحن بعيدون جدا منها. لكن إذا استمرت هذه الأزمة، مع تقليص نقل البضائع على المستوى الدولي، يمكننا أن نتوقع عودة التقنين. هنا ينتهي التشابه”.
في حين أن الفيلسوف الفرنسي الآخر إدغار موران، وفي حوار مجلة لوبس الفرنسية معه، يشدد على أن فايروس كورونا يخبرنا بقوّة، أنه يتوجّب على البشرية كلها أن تبحث عن مسار جديد يتخلّى عن العقيدة النيوليبرالية، من أجل صفقة سياسية جديدة اجتماعية وبيئية. ومن شأن المسار الجديد أن ينقذ ويقوّي الخدمات العامة مثل المستشفيات التي عانت في أوروبا من تقشّف غير معقول منذ سنوات عديدة. وسيصحّح المسار الجديد انعكاسات العولمة من خلال إنشاء مناطق متخلّصة من العولمة، من شأنها حماية عدد من الاستقلاليات الذاتية الأساسية.
ويشدّد موران كذلك على أنّه يجب علينا استعادة التضامن الوطني، ليس التضامن المنغلق والأناني، بل المنفتح على مصيرنا المشترك “الأرضي”.. ويقول إنه قبل ظهور الفايروس، كان البشر من جميع القارات يعانون من المشاكل نفسها: تدهور المحيط الحيوي، انتشار الأسلحة النووية، والاقتصاد غير المنظم الذي يزيد من الفوارق الاجتماعية. ليؤكّد على أنّ هذا المصير المشترك موجود، لكن بما أن العقول قلقة، بدلا من الوعي به، فإنها تلجأ إلى الأنانية الوطنية أو الدينية. كما يؤكّد كذلك على أنّ التضامن الوطني ضروري، ولكن إذا لم نفهم أننا بحاجة إلى وعي مشترك بمصير الإنسان، وإذا لم نحقّق تقدما في التضامن، وإذا لم نغيّر نمط التفكير السياسي، فإن أزمة الإنسانية ستزداد سوءا. رسالة الفايروس واضحة. الويل لنا جميعا إذا كنا لا نريد سماعها.
أما الفيلسوف الألماني يورغان هابرماس، وفي لقاء مع صحيفة لوموند الفرنسية، ذكر أنه يشعر بالذهول أمام الوباء الذي يجبر الجميع اليوم على تأمل أمور لم يكن يهتم بها في السابق سوى الخبراء والمتخصصين. ويقول في حوار معه “اليوم، يعي جميع المواطنين ما يجب على حكوماتهم اتخاذه من قرارات، وهم مدركون تماما لحدود معرفة مستشاريهم من علماء الفايروسات. من النادر أن يكون فضاء الفعل في شرط من اللايقين بهذا الوضوح والحيوية. لذلك ربما ستترك تلك الخبرة غير العادية أثرا لا يُمحى في وعي المجال العام”.
ويؤكد هابرماس كذلك على أن قرار اللحظة المناسبة لإنهاء الإغلاق – وهو إجراء مطلوب أخلاقيا وقانونيا لحماية الحياة – يمكن أن يتعارض، على سبيل المثال، مع حسابات الربح والخسارة. يجب على السياسيين أن يقاوموا “الإغراءات النفعية” للموازنة بين حجم الأضرار الاقتصادية والاجتماعية من جهة، والوفيات التي يمكن تجنّبها من جهة أخرى.
يظهر الواقع الجديد أن البشرية تشهد ميلاد عالم جديد بات يتشكل رويدا رويدا على وقع الأزمة المجتاحة، وتتبلور صورته وصيغته بهدوء، حيث تحملان من الأطر القديمة وتبنيان عليها، تلغيان قيودا وتضع أخرى تناسب الشكل الجديد الذي تمضيان في تسارع إليه، والذي لا يزال محط أسئلة وتشكيك ومقاربة وتأويل.
جدلية الأنا والآخر
جددت الجائحة تعريفات سادت لزمن طويل، عن الذات والآخر، وعن الهوية في عالم مضطرب، وكيف أن الآخر لم يعد الجحيم هنا، بل بات الشريك في مواجهة آخر أخطر، آخر غير مرئيّ، شبحي يطوف في الأرض ويفتك بالبشر، بدّد الأنانية، ورتّب مفهومي الأثرة والإيثار، الآخر أصبح الخطر، ولكنه ليس الخطر بمعناه السابق فقط، بل بمعنى مضاف. الفايروس المستجد أصبح الآخر، والآخر المستجد الحامل للفايروس أصبح تهديدا كذلك ضمنيا، باعتباره حاملَ فايروس محتملا، ولا يجدي نفعا أيّ هروب منه، أو تنكيل به، بل لا بد من مواجهته لتلافي الخطر المحدق بالجميع.
وفي سياق الحديث عن أزمة الأنا والآخر، أو الـ”نحن” والـ”هم”، تتجلى إحدى طرق التفكير في الوباء من حيث قدرته على توحيد البشرية لمحاربة تهديد خارجي يكشف للجميع ضعفهم، ويحييهم في قلق متجدد، ويجبرهم على تضافر جهودهم في جميع أنحاء العالم لمعالجة هذا المرض، عسى أن يكون هناك اكتشاف قريب لإيقافه، وهذا ممّا يحيي بعض الأمل بانتعاش الوحدة الإنسانية، لكنه من ناحية أخرى، يضمر خطر تشكيل وحدات متباعدة تتجسد في “نحن”، و”هم”، من دون تجسير الفجوة بينهما. أما فيلسوف الأخلاق الأسترالي بيتر سنجر، وفي لقاء مع صحيفة إنفورماشيون الدنماركية، فأشار إلى أنه ستكون هناك عزلة اجتماعية، اكتئاب، مشاكل نفسية، عنف منزلي، وأنّ كل ذلك يجب أن يدخل في المعادلات، لكي نتمكّن تماما من معرفة ما إذا كان العلاج أسوأ من المرض بحدّ ذاته. ولفت إلى صيغ تفكير الأنا بالآخر في البلدان الغنية، وكيف أنّ الناس غالبا ما يصابون بالعمى حيال التأثيرات الناتجة من هذا الوباء التي تحدث في الدول الأكثر فقرا.
ولعلّ هذا ما لفت الفيلسوف الفرنسي جاك أتالي، الذي كتب في مدونته الشهيرة، أنه في حال فشلت الدول في إيجاد حلول لأزمة كورونا، سيؤدي بنا ذلك إلى نظم سلطة جديدة ستقود العالم في السنوات القادمة. أما إدغار موران فتراه يحمّل المسؤولية مباشرة إلى العولمة التي يرى أنها وحّدت العالم في المستوى التقني والاقتصادي لكنها لم تؤاخي بين الشعوب وذهبت إلى إبادة الخصوصيات الثقافية. ويضيف أن الكورونا هي بصدد إخبارنا بأن البشرية ستبحث لها عن مسالك جديدة بعيدا عمّا اعتادت عليه في السابق.
وبعد هذه الأطروحات التي لا تخلو من حيرة وما يمكن أن يوصف بالارتباك، أو التخبط، يبدو أن العالم سينتظر خطة إنقاذ على طريقة مشروع مارشال الاقتصادي الذي قدمه وزير الخارجية الأميركي جورج مارشال سنة 1947.
لعلّ من اللافت، في الختام، التأكيد على أنّ جائحة كورونا فرضت على الفلاسفة التشديد على فكرة أن المرحلة التي تعقبها لن تكون كالتي سبقتها، بالموازاة مع التشديد على فكرة تعاضد الحضارات وتكاملها، والتسامي على الجراح التاريخية، والابتعاد عن فكرة صراع الحضارات التي نظّر لها صموئيل هنتغنتون، وتوحيد القوى والجهود والدراسات والأبحاث من أجل إنقاذ الكوكب الذي يبقى الجميع شركاء فيه.