إسقاط التماثيل موجة تطهير تاريخية تجتاح أوروبا
هيثم حسين
هل يمكن استجرار الماضي إلى الراهن والحكم عليه بمنظار اليوم؟ أليس التاريخ حقلا مليئا بالألغام قابلا للتأويل والتحوير والتوظيف تبعا لمواقف سياسيّة؟ مَن المؤهّل للحكم على التاريخ ورموزه؟
هل يمكن القول إنّ المحتجّين على “أصنام” التاريخ هم ممَن ذاقوا ويلاته، ويحاولون إعادة الاعتبار لتاريخهم المهمش والمنسيّ والمقصيّ؟ وهل يمكن القول إنّ تاريخ اليوم بات يكتبه أبناء المهزومين، أو أحفاد الضحايا السابقين؟ هل يمكن تصحيح أخطاء التاريخ بإزالة الرموز التي تكون محطّ اختلاف وتناقض من الساحات؟
ألا يتحوّل ردّ الفعل نفسه إلى فعل عنصريّ تجاه التاريخ، ومحاولة لإعادة الانتقام من المعاصرين وتجريمهم بجرائر السابقين الذين أصبحوا طيّ الماضي بما فيه من موبقات، وإنجازات؟
تثير حملة التطهير التي تشنّها عدّة مدن غربيّة على رموز الماضي، وإعلانها ما يشبه البراءة من آثام مَن يعدّون بعرف اليوم مجرمين أو مذنبين، مهما كانوا قد حقّقوا من منجزات أو مكتسبات لأنفسهم ومَن ينتمون إليهم..
وبعد أن أسقط متظاهرون غاضبون ومناهضون للعنصرية في مدينة بريستول البريطانية تمثال إدوارد كولستون تاجر الرقيق على خلفية مقتل الأميركي جورج فلويد، استعرت حملة لـ”تنقية” المدن من تماثيل مَن يمكن اعتبارهم شخصيات مسيئة أو عنصرية أو إجرامية في حقب تاريخية سابقة.
يختلف النظر إلى التاريخ ورموزه باختلاف الناظر وزاوية النظر، فمن قد يعتبره بعضهم بطلا قد يعتبره آخرون شيطانا ومجرما ينبغي عقابه، حتّى ولو ميتا، وإخراج جثّته الرمزية والتنكيل بها ودفنها بشكل “يليق” بالجرائم التي اقترفها في ماضيه.
مثلا، وينستون تشرشل، الذي كان رئيس بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، وكان بطلها، واختير كأعظم بريطاني على مرّ التاريخ قبل سنوات، ونال جائزة نوبل في الآداب سنة 1953، تمّ استهداف تماثيل له في بريطانيا من قبل متظاهرين نبشوا في تاريخه وأشاروا إلى ما يمكن وصفه بالعنصرية في تصريحات أو كتابات أو أقوال له.
فتشرشل الذي يعدّ رمزا للعظمة البريطانية هو شخص آخر مختلف في نظر أعدائه، وهو من وجهة نظر ضحاياه أو أعدائه السابقين، يستحقّ التنكيل بتماثيله التي يريد بعضهم إزالتها ضمن حملة التطهير المستعرة هذه الأيّام، لكن في الحقيقة يعتبر هذا الفعل وما يستتبعه ويدور في فلكه إساءة لمشاعر عشرات الملايين من البريطانيين الذين يعدّونه بطلهم التاريخيّ.
لربّما يكون من الخطأ بمكان الانكباب على تأثيم كلّ ما يمتّ إلى التاريخ وتأثيمه ونزع صفاته عنه وإلصاق صفات محدّدة به، بحيث يتحوّل إلى أداة توظيف سياسيّة راهنة يروم الساعون من خلال توظيفها لخدمة رؤاهم وأفكارهم بعيدا عن تفهّم المرحلة التاريخية وملابساتها، وما كان يدور فيها، وبعيدا عن فهم التحقيب الزمني للمفاهيم والأفكار نفسها.
ما يعتبره البعض اليوم جرما ربّما كان يوصف بالأمس البعيد أو القريب، فعلا ممدوحا أو حتّى بطوليا، ومَن قد يعتبره بعضنا أسطورة من زاويته، قد يصفه آخرون بالشيطان الرجيم نفسه..
النسبية تطغى على الشخصيات والمفاهيم والأفكار، ويبدو أنّ موجات التطهير التي تجتاح مدنا وعواصم أوروبيّة تروم البحث في دهاليز الماضي والاقتصاص للمظلومين الذين كانوا يعتبرون أبناء المستعمرات أو ممّن تعرّض أجدادهم أو آباؤهم لظلم مَن يعدّهم أوروبيّون أبطالا أو أصحاب منجزات عظمى أو خدمات اجتماعية واقتصادية معتبرة.
لعلّ من الأنسب التفكير في التاريخ كماض أو كفتنة في أسوأ الحالات، لا ينبغي إيقاظ الشياطين الراكدة والغافية في ثناياه، كي لا تثير مزيدا من العداوات في الحاضر، وأن يتمّ تحاشي تأجيج صراعات لا يمكن أن تفضي إلاّ إلى المزيد من التناحر والاختلاف والاستعداء..
ولعلّ من الأفضل لو يتمّ التخطيط للمستقبل بعيدا عن إرث الماضي الشائن، ومع الاستفادة من الدروس التاريخية فيه، من دون أيّ بحث عن الانتقام أو المحاكمات التي تشوّه الراهن وتعكّر أيّ احتمال للصفو مستقبلا، وتبقي جمر الأحقاد مستعرا لا يستدلّ إلى أيّ نهاية.