مروحيات خاصة للشرطة تطارد وباء الضوضاء

هيثم حسين

مع انتشار فايروس كورونا الذي بات يهدد أغلب أقطار العالم، عاد الكثير من القراء إلى روايات وأعمال أدبية وفنية تتحدث عن الأوبئة، حيث مسألة الوباء ليست جديدة، بل هناك عشرات الروايات والأفلام التي تناولتها، وكل منها بطريقة مغايرة عن سابقاتها، ومن بين هذه الأعمال نجد رواية “أغنية المهد” التي تطرح زاوية مختلفة تماما عن الوباء.

يحكي الأميركي تشاك بالانيك في روايته “أغنية المهد” عن وباء غريب يمكن أن يصيب البشر، ويفتك بالحياة الإنسانية، ويختبر قوة الإنسان ومناعته وصموده وجبروته إزاء المحن التي قد تحملها الطبيعة له، أو تلك المتخيلة التي يمكن أن تصيبه، وتداعياتها وتأثيراتها الخطيرة على الحياة برمّتها.

يروي تشاك بالانيك، وهو روائي أميركي ذو أصول فرنسية وروسية وأوكرانية، ولد عام 1962، في واشنطن، عمّا وصف بالأوبئة النفسية والأسرار الدفينة التي تلعب دورا كبيرا في توجيه حياة المرء تجاه هذا الجانب أو ذاك، وتحدد له مساره، وربّما مصيره في الكثير من الأحيان. ويحكي عن حصار التكنولوجيا للبشر، وكيف يكون هناك إدمان عليها، إدمان على التشويش وعلى خلط التفاصيل ببعضها البعض للهروب من الاستحقاقات المؤجّلة دوما.

وباء الضجيج

يحذّر بالانيك في روايته، الصادرة عن دار التنوير بترجمة هشام فهمي، من وباء يتسبّب فيه التلوّث السمعيّ، والضجيج الذي يسمّم الأجواء، وما تغرق به وسائل الإعلام الناس من موسيقى صاخبة، أو مزعجة، تسبّب لهم الضغط وتبقيهم تحت أعباء الاضطرار لاستقبال ما يتمّ إرساله لهم من مخطّطات تستهدف أمانهم النفسي، ودفاعاتهم الداخلية التي يتمّ تجريدهم منها بشكل ممنهج.

الراوي كارل ستريتور، صحافي استقصائيّ يحقّق في أسباب بعض جرائم القتل، يصوّر مشاهد مرعبة وهو يخاطب القارئ ويطالبه بتخيّل وباء يصيبه بمجرّد السماع، ويسأله تخيل الرعب، وتخيل عصر ظلام جديد. ويقول لقد جاء الاستكشاف والتجارة بالطاعون الأول من الصين إلى أوروبا، لكن في وجود الإعلام صارت لدينا وسائل كثيرة جدّا للنقل.

الكتب تحترق والشرائط والأفلام والتلفزيونات وأجهزة الراديو تغذي المحرقة الكبرى
الكتب تحترق والشرائط والأفلام والتلفزيونات وأجهزة الراديو تغذي المحرقة الكبرى

كما يمضي في سؤاله؛ يكتب مطالبا بتخيل الكتب تحترق، والشرائط والأفلام والملفات، وتخيّل التلفزيونات وأجهزة الراديو وهي تغذي المحرقة الكبرى، وتخيّل كل تلك المكتبات وقد تمسّكت بها ألسنة اللهب في قلب الليل، ويسير في السيناريو الكارثي بالقول إنه سوف يهاجم الناس محطات موجات الميكروويف ويبترون كابلات الألياف البصرية بالفؤوس.

يشطح في التخيّلات وأسئلة التخييل المفروضة، يكمل توجيه الخطاب لقارئه المفترض، بتخيّل الناس وهم يرددون الصلوات والتراتيل طوال الوقت لإغراق أيّ صوت آخر قد يأتي حاملا الموت. سوف يضغطون بأيديهم على آذانهم وقد نأوا عن كل أغنية أو كلام يحوي الهلاك في طياته كما يسمّم المخبولون زجاجات الأسبرين. كل كلمة جديدة، كل شيء لا يفهمونه بالفعل سوف يصير مشتبها به، خطيرا متجنبا؛ حجر صحي ضد وسائل الاتصال.

يؤكّد بالانيك في روايته أن الناس مقبلون على رعب جديد في كل مرحلة من مراحل تاريخهم، وأن أغنية المهد تكون وباء سمعيا، حيث يكون هناك عالم مختلف، عالم يعي الجميع فيه أغنية المهد، سيصير هناك تعتيم سمعي، كما في أيام الحرب، سيتحرك الخفر في دوريات منتظمة، لكن بدلا من البحث عن الأضواء، سيتلصصون على الأصوات ويأمرون الناس بأن يخرسوا. كما تبحث الحكومات عن التلوث في الماء والهواء، سوف تحدد تلك الحكومات ذاتها مصدر أيّ صوت أعلى من همسة وتعتقل صاحبه.

وينسج على منوال السوداوية نفسه بالقول إنه ستكون هناك مروحيات خاصة تبحث عن الضوضاء كما يبحث رجال الشرطة عن المخدرات اليوم. سيتحرك الناس على أطراف أصابعهم وهم يرتدون أحذية ذات نعال من المطاط، وسيلصق المخبرون آذانهم بكل ثقب مفتاح. إنه عالم خطير مرعب. إنه عالم تساوي فيه كل كلمة ألف صورة.

يلعن فكرة الإدمان على الضجيج، الرعب من الصمت، وما يسميه بحصار الأفكار والسيطرة الكاملة للحياة، ويشدّد على أنّ للكلمات وقعا قويا، يصفها بأنّها صوت الهلاك. ويقول إننا نعيش في برج بابل.. لا بل في برج بلبلة مائل. قي واقع مهزوز من الكلمات، وصفة حمض نووي للكوارث. مع دمار العالم الطبيعي يبقى لنا هذا العالم الذي تسوده فوضى الكلام. الأخ الأكبر يغني ويرقص، ونحن نتفرج. قد تكسر العصي والحجارة عظامنا، لكن دورنا يقتصر على أن نكون الجمهور المشاهد المطيع، أن نشحذ انتباهنا وننتظر وقوع الكارثة التالية.

عالم الصحافة

رعب جديد
رعب جديد 

يسترسل الراوي ستريتور في وصف عالم الصحافة، ومحنة الأخ الأكبر، وكيف أن مشكلة كل قصة أنك تحكيها بعد وقوع الحدث، وأنّ المشكلة الأخرى هي الراوي، من يبلغك بمن وماذا وأين ومتى ولماذا، التحيّز الإعلامي، وكيف يعيد ناقل الحقائق تشكيلها وصياغتها، ما اصطلح الصحافيون على تسميته بـ”حارس البوابة”، وكيف أن طريقة التقديم هي كل شيء.

يستخدم بالانيك على لسان راويه المصطلح الذي راج بعد نشر أورويل لروايته كمرادف لاستغلال الأنظمة لسلطاتها وتعديها على الحريات والحقوق بأقنعة مختلفة.. والأخ الأكبر الذي يحضر في رواية “1984” لجورج أورويل، هو الزعيم الغامض لدولة شمولية يملك فيها الحزب الحاكم سلطة مطلقة على حياة المواطنين بزعم أن هذا في صالحهم، وهو ما يتم تذكيرهم به باستمرار بعبارة “الأخ الأكبر يراقبك”..

يعيد التأكيد على أنّ الأخ الأكبر لا يراقبنا، إنه يرقص ويغني، إنه يخرج الأرانب من قبعته. ويقول: الأخ الأكبر مشغول بجذب انتباهك في كل لحظة تبقى خلالها مستيقظا، يعمل على أن تكون مُلهًى على الدوام، يتأكد من انهماكك التام. إن هدفه أن يذبل خيالك إلى أن يصير كزائدتك الدودية. إنه يسعى إلى شغلك طوال الوقت.

الكاتب اقتبس عبارة "الأخ الأكبر يراقبك" من رواية جورج أورويل
الكاتب اقتبس عبارة “الأخ الأكبر يراقبك” من رواية جورج أورويل

ويشدّد على القارئ/ الصحافي، موجّها خطابه في الوقت ذاته إلى نفسه أيضا، بأنه إذا ظلّ اهتمامك منصرفا إلى ما يرغب فيه الأخ الأكبر، فإن هذا أسوأ من أن يراقبك. عندما يستغرقك العالم تماما، فلا أحد سيقلق ممّا يعتمل في عقلك. مع ضمور الخيال لدى الجميع، فلن يمثّل أحدنا تهديدا للعالم. ويلفت الانتباه إلى أنهم يريدونك أن تؤمن دائما بأنك والخبر شيئان منفصلان تماما. القاتل ومن يغطي أخباره كيانان لا علاقة لأحدهما بالآخر، لا يمكن الجمع بينهما. أيا كان موضوع التحقيق فهو ليس أنت.

يثير الكاتب سؤالا عن جانب الحياة المأمولة، وكيف أن الحيلة التي يجب أن يمارسها الصحافي الاستقصائي الذي ترسم التحقيقات وجرائم القتل لوحة حياته ويومياته، لنسيان الصورة الكبيرة، أن ينظر إلى كل شيء من أقرب زاوية ممكنة، وأنّ الطريق المختصرة لإغلاق باب ما هي أن يدفن نفسه في التفاصيل، في الحقائق. وأنّ أفضل ما في العمل كمراسل صحافي أنه يستطيع الاختباء وراء مفكرته، وأنّ كل شيء عبارة عن بحث يجريه.

وحين يتحدث عن الجانب الأخلاقي في نقل الوقائع والمحافظة على الأمانة فيها، من دون تلاعب أو تحوير، تراه يذكر أنه بدلا من الأخلاق، تعلّم أن يقول للناس ما يرغبون في سماعه فحسب، تعلّم أن يدوّن جميع التفاصيل، وتعلّم أنّ المحرّرين أوغاد حقيقيون.. كما يذكر أنه لعلّه لم يتعلّم قيم الأخلاق، لكنه تعلّم أن يظلّ منتبها، فلا توجد تفصيلة أقلّ أهمية من أن تستدعي انتباهه.

وفي ما يتعلق بالأخلاقيات، يشير بالانيك بما يستشفّ بأنّه تبنٍّ لوجهة نظر راويه ستريتور، حيث أنه قد تعلّم أنه ليس من عمل الصحافي أن يحكم على الحقائق، فعمله ليس فلترة المعلومات، بل أن يجمع التفاصيل، وأن يدوّن ما هو موجود، وأن يكون شاهدا محايدا. ويقول إنّك لا تصبح مراسلا صحافيا لبراعتك في الحفاظ على الأسرار. وكونك مراسلا معناه أن تحكي، أن تحمل الأنباء السيئة، أن تنشر العدوى، أكبر قصة في التاريخ.

عن صحيفة العرب اللندنية

© Copyright 2020. All Rights Reserved