«ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟» لسليم بركات.. هويات مبددة وأحلام ضائعة

هيثم حسين

يعود الروائي السوري الكردي سليم بركات في روايته «ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟» إلى حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، ليؤرخ لبعض المتغيرات الاجتماعية والسياسية في مدينة القامشلي السورية التي أمضى فيها ردحًا من طفولته وفتوته، والتي كانت مسرحًا لمواجهات وسجالات بلورت صيغة مهمشة للهوية السورية التي تعاني التفكك والاجتزاء. يركز سليم بركات في روايته (منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الأردن، عمان) على كيفية إخفاق السلطة الحاكمة الممثلة في نظام البعث في صياغة هوية وطنية جامعة بحلة معاصرة تجمع أطياف الشعب السوري ومكوناته من حولها، وواقع أنها بنيت على أساس إقصائي تهميشي عنصري تجاه الآخر المختلف، الذي صور على أنه مصدر تهديد للدولة التي اختصرها الحزب في تفكير بائس يشيطن الآخر ويستعديه.

يوثق سليم بركات لواقع تلك السنوات من زاوية الفتى المراهق كيهات الذي يعبر عن حالة الحلم المنكسر، والإحباط الذي بثته السلطة الحاكمة في ثنايا المجتمع الكردي ليقصيه عن هويته الوطنية، ويلغي انتماءه التاريخي، ويحاول تغريبه عن واقعه ومستقبله، بذرائع عدوانية تفتقر للمسؤولية والحس الوطني المزعوم، ويحول البلاد إلى أوطان طاردة لأبنائها، ومبددة لهوياتهم ومضيعة لأحلامهم.

مَن السيدة اليهودية راحيل التي يسأل عنها سليم بركات، والتي يضع السؤال عنها عنوانًا لروايته؟ هي امرأة يهودية أرملة، استلمت حانوت زوجها المتوفى في الحي اليهودي في القامشلي، وكانت لديها ابنتان؛ إحداهما مراهقة اسمها لينا تعيش معها في بيتها، والأخرى بعيدة منها، أحبت شابًّا مسيحيًّا وهربت معه. وتكون راحيل متصدرة العنوان وجامعة خيوط الأحداث، من حيث تعبيرها عن النقائض في مدينة كانت مقبلة على متغيرات تاريخية كبيرة. أوسي الجابي في دائرة مصلحة الكهرباء، وزوجته هدلا، يعكسان خيبة ابنيهما كيهات وموسى، أوسي الذي يصفه سليم بركات بالقول: إنه فاتته الجنسية السورية، كآلاف الأكراد لم يستحصلوها مذ تجاهلهم التشريع في اعتراف الدولة ببشرها القاطنين أرضها. ويشير بركات كيف كان عنصر المخابرات يسخر من كيهات وانتمائه وهويته، يسأله أسئلة محرجة حين يصادفه في الحي اليهودي في القامشلي، يبادر إلى تخليصه من ارتباكه بالإمعان في السخرية منه، ويقول: إنه قد يكون كرديًّا يهوديًّا، ويتجاهل قوله: إنه مسلم، ويتمادى في السخرية منه بالسؤال إن كان هناك أكراد يهود، وما إن كانوا كلهم يهودًا؟ وحين يحتج كيهات بأنه ليس يهوديًّا يقرعه رجل المخابرات وينهره بالقول: أنا أقرر، يا حمار، ماذا تكون؟ (ص 40).

مدينة التعايش والتنوع

يعيد سليم بركات رسم معالم الحي اليهودي في القامشلي التي كانت مدينة للتنوع والتعايش بين الأديان والأعراق في سوريا، ويورد أسماء تاريخية معروفة لأبناء المدينة، كاليهودي العطار عزرا صاحب الحانوت الشهير، حيث يتخيل بطله كيهات حين يمر بالحي اليهودي أن يتجه إلى حانوته، أو يدعوه عزرا إليه، وكيف سيعرض العطار عليه مجانًا بعض سلعه التي كانت تثير الشبهات حول إمكانية استخدامها لأعمال السحر، أو قيامه هو نفسه بإعداد السحر لزبائنه. يزور كيهات، الذي يعني اسمه بالكردية «مَن جاء»، حانوت راحيل التي تبيع اللحم، ويصادف هناك ابنتها المراهقة لينا التي يقع في حبها، وينسج أحلامه وخيالاته حولها، وكان في الرابعة عشرة، وبضعة شهور من عمره. يستذكر سليم بركات في روايته تأثير نكسة 1967م السلبي الكبير في النسيج الاجتماعي في القامشلي، وكيف أن حرب الأيام الستة شكلت منعطفًا عنصريًّا خطيرًا تجاه الآخرين جميعًا في دولة البعث التي نحت نحو العنصرية بسرعة واطراد، وجسدت في الآخر مصدر الشرور وجعلته مثار الشكوك، المتهم الذي يجب عليه أن يحاول إثبات براءته من جرم لم يقترفه.

يعبر بركات عن حالة التخبط الرسمية والشعبية حينها، وكيف انعكست على اللغة والواقع والتاريخ، ويمضي في السخرية بوصفه لحالة كيهات، وأنه لم يرجع إلى منزل راحيل في السبت التالي على سبت نهاية الحرب، التي أدرجها العرب على مرتبة خفيضة من ذل المعنى، فأسموها «نكسة» تقدر ممحاة طفل أن تمحوها محوًا لا يخلف أثرًا في ورقة التاريخ الخشنة. يصف سليم بركات ولع موسى؛ أخي كيهات، بالسينما وببطله شارلي شابلن الذي أصبح على اللائحة السوداء للبعث بوصفه أميركيًّا وداعمًا لإسرائيل والصهيونية، وذلك بعد الهزيمة التي وضعت الجميع في خانة الاتهام والتواطؤ، إلا الذين تسببوا بها، والذين وجهوا بنادقهم وأسلحتهم إلى صدر الشعب والدولة لينكلوا بهما سنة وراء أخرى.

يصف صاحب «الريش» الأرمنَ في القامشلي بأنهم «رعاة المعادن في حقول عافية المعادن واعتلالها». (ص 169)، ويروي أن بطله كيهات حين يتحدث مع صديقه بوغوس ويفكر في أوضاعه وأوضاع الأرمن، لا يفهم معنى أن تقبل دولته من الأرمني، وليس من سواه، طلب الهجرة على نحو عادي، كأنه معار تسترده دولة العرق الأرمني. يتحدث عن العنصرية التي كرسها حزب البعث بسياساته الإقصائية والعدوانية تجاه الآخرين، وكيف كان ذاك الحزب يسفه من قيمة الآخرين، ويحطّ من شأن لغتهم ودينهم وعرقهم بالزعم أن العربي هو العرق المتفوق. ويكمل سليم بركات طريقة تفنيد الأكاذيب التي دبجتها السلطة الحاكمة في سوريا بالسخرية، من دون أن يوليها اعتبار الحقائق.

مرتشون وجواسيس

يحكي سليم بركات عن رحلة خروج اليهود السوريين من القامشلي، وكيف كان مهربون تابعون للنظام ينسقون مع المخابرات، ويسهلون خروجهم وعبورهم الحدود إلى تركيا، ويكتب أن كيهات كان يسأل والده أين يذهب اليهود الذين يختفون؟ فيرد عليه والده بأنهم يوصلهم مهربون إلى تركيا، عبر الحدود. ويوصلهم مرتشون إلى لبنان، ومن لبنان إلى قبرص، ومن قبرص إلى دولة اليهود.

ويكتب عن تلك المرحلة بأنه لن يتمكن التاريخ الشفهي من رسم معالم للوقائع في اختفاء يهود من مدينة القامشلي. كما يتحدث عن الجاسوس الإسرائيلي الشهير إيلي كوهين؛ كامل أمين ثابت، الذي يقول عنه: إنه جاء من الأرجنتين ثريًّا، يحفظ آيات من القرآن، ويتحصن بتعاليم الدين الإسلامي، والهدايا. مهد لنفسه -بزعمه أنه من أصول سورية مسلمة- الدخول إلى أبراج السلطة بوساطة المآدب الفاخرة، أسبوعًا بعد أسبوع، للدبلوماسيين السوريين في بوينس آيريس، قبل اجتياحه دمشق بمآدب موائدها أوسع، فاتنة الأطعمة والأشربة، أبهى صحافًا وصحونًا وأقداحًا. (ص 328 – 329).

لعل المشهد الأخير الذي يختتم به سليم بركات روايته هو الأكثر تعبيرًا عن حالة سوريا الراهنة، ترميزًا إلى مآلها المستقبلي المفترض، ولا سيما أنه يختصر التقسيم وتقطيع الأوصال، حيث يصف بطله كيهات يدندن كلمة «سوريا» مقطعة على نغم مرتجل: «سو. ري. يا». ثم يصف حالته بأنه «شهق شهيقًا خفيفًا أعقبه بزفير حاد». وينهي بعدها الرواية بالقول: «بكى كيهات». (ص 562). والبكاء هنا تأسٍّ ورثاء على ما كان وما يكون من خراب ودمار.

© Copyright 2020. All Rights Reserved