السحر والحياة البديلة في عالم الحكاية

هيثم حسين

تخلّف الحكايات سحرها الخاصّ، وتثير الدهشة المأمولة لدى المتلقّي الذي يعتبرها كنزه الأثير، ويبدأ بالتنقيب بين طيّاته بحثا عمّا يصبو إليه من جماليات، ولذائذ في عالم القراءة وميدان التأويل.

تفتح قراءة الروايات أمام القارئ علاقة جديدة بينه وبين الظروف المحيطة به، تساعده على التكيّف مع واقعه، تؤثّث له عالما بديلا، أو حياة موازية، يكون الخيال مدماك هذه العالم، ومحوره الباعث على توسيع الأفق، وعدم الارتكان لأيّ حدود أو قيود.

مَن يتجرّأ على الزعم بأنّه ينهض بدور في إنقاذ الخيال المأمول؟ القارئ أم الكاتب؟ الكاتب بإعمال الخيال وإثارته أم القارئ بالاستجابة للتخييل بتخييل آخر مختلف؟ أيّ سحر في الخيال وأيّ خرافة تسير في ظلاله وتتقنّع به؟

يوصف الكاتب بأنّه مبتكر، وأحيانا ساحر يتفنّن بالكلمة ويثير الأخيلة بالصور المتخيّلة والعوالم المبتكرة، يرتحل في فضاءاته ويأخذ معه قارئه لاحقا في ارتحالاته، بحيث يؤكّد على سطوة الخيال وقدرته على صناعة حياة موازية، أو أخرى تعوّض المفقود والمشتهَى في الواقع المعيش.

يدرك الكاتب والقارئ معا أنّ المعاني الخفية المتضمّنة في الحكايات تكون زئبقيّة، تتغيّر بتغيّر المتلقّي، ولا تتجلّى أو تتجسّد بمسار محدّد أو تأويل مقيّد، تكتسب الرموز والتفاصيل سعة ورحابة، تمضي في فضائها الخاصّ بها، في عالمها السحريّ الذي لا يسلّم مفاتيحه بسهولة ويسر، بل يتطلّب إثارة الخيال، وتحريض المتخيّل على التحليق في تخييله كذلك لتحفيز الفكر.

دراسة ومقاربة الحكايات الخرافية من ألف ليلة وليلة
عوالم سحرية مبتدعة

الحديث عن سحر الحكاية وقدرتها على صناعة عوالم بديلة أو حيوات موازية، يستحضر عالم ألف ليلة وليلة الساحر الذي يظلّ متجدّدا، محتفظا بجماليات التورية، ومحرّضا على البحث والاكتشاف، وكأنّه مختصر لخيال حقبة مديدة من تاريخ عالم غرائبيّ ساحر، يبعث الرغبة في السفر عبر الزمن، والخيال، للحظوة بما يمكن التحصّل عليه من أسرار مخبوءة وسط الحكايات المتناسلة من بعضها.

في كتابها “السحر الأغرب.. مشاهد فاتنة من وحي ألف ليلة وليلة” ركّزت البريطانية مارينا وورنر على ما يتعلق بالأسطورة والسحر والحكايات الخرافية، وقامت بدراسة ومقاربة تلك الحكايات من ألف ليلة وليلة، ونبشت ما وراءها من أساطير وخرافات تؤثث فضاءها الحكائي المتخيل.

أكّدت وورنر على ما يمكن تسميته وتوصيفه بتناسل القصص الساحر، وكيف أنّ الحكي يمكن أن يكون منقذا لصاحبه، أو مهلكا له في بعض الأحيان، وأن القارئ يتعلم توقع المفاجأة عند كل منعطف، كلما توغل في الحكايات. وأنه بذلك تزداد مهمة الراوي صعوبة في إثارة دهشة القارئ المتأهب دائما. أشارت إلى أن شهرزاد كانت تزداد همة ونشاطا في الحكي مع زيادة استعداد مستمعيها وتأهبهم لما هو غير متوقع.

وعملت الروائية التركية أليف شفق على ابتداع عوالم سحرية في روايتها “البنت التي لا تحب اسمها”، وذلك من خلال التركيز على جيل المراهقين، وعلى طريقة الإسكتلندية جي كي رولينغ في روايتها الذائعة الصيت الموجهة للفتيان “هاري بوتر”، تنسج شفق تفاصيل عالمها الروائي في روايتها، ويكون تخييل الفضاءات والعوالم السحرية دربا للشخصية للإبحار في التخييل، ومساءلة نفسها وواقعها والمحيطين بها أسئلة تغوص في صلب الواقع والحياة، وطرق التعامل في ما بين الأجيال.

تذكر أن اسم بطلتها لم يكن يعجبها، بل كانت تخجل منه، البطلة التي تحمل اسم زهرة الساردونيا، وهو اسم غريب، تبحث في تاريخ اسمها ومعناه، وتذكر أنها قرأت في الموسوعة أن هناك نبتة تسمى ساردونيا، بحيث كان اللاتيني أكثر غرابة “بيلاغونيوم بيلتوتوم”. أما ألوان أزهارها فقد كانت بيضاء أو وردية أو صفراء أو حمراء، ووطنها الأم أفريقيا الجنوبية. تنبت في الأصيص وتتفتح أزهارها طوال السنة، وتوضع أمام النوافذ أو في الشرفة، وتفوح من أوراقها رائحة غريبة تشبه رائحة الليمون، وبفضل هذه الرائحة لا تستطيع الحشرات أو الذباب الاقتراب منها.

دراسة ومقاربة الحكايات الخرافية من ألف ليلة وليلة
دراسة ومقاربة الحكايات الخرافية من ألف ليلة وليلة

حين تصل إلى مرحلة اليأس ممن يحيطون بها من زملائها وأصدقائها وكيف يسخرون من اسمها، تلجأ إلى واقع بديل، واقع متخيل تجد نفسها متصالحة فيه مع اسمها، حيث تذكر أنها قرأت ذات يوم في مكان ما أن لكل امرئ على الأرض شبيها في الفضاء، وكل ما يقوم به على الأرض يقوم به شبيهه في الفضاء، وكان ذلك إشارة لها للتحليق في عوالم الخيال والفضاء.

كانت ساردونيا تحلم بكوكب يختار فيه كل إنسان اسمه بحرية، وتشير إلى أن الكتب كانت أقرب صديق إليها منذ طفولتها. كانت الروايات والحكايات والشعر من الكتب المفضلة لديها. كان هناك الكثير من الكتب في بيتها. ومع ذلك كانت تستعير كتبا من المدرسة بانتظام، تقرؤها وتعيدها إلى المكتبة في الوقت المحدد.

تشدد الروائية على دور القراءة في مصالحة المرء مع واقعه واسمه وتاريخه، وفي انطلاق في الخيال وتحليق في عوالم القارة الثامنة المتخيلة، تلفت إلى سبل إبقاء القارة الثامنة حية ومتجددة، تقول إنه ذات يوم تعثر الفتاة في المكتبة على مجسم للكرة الأرضية، فتتعرف من خلاله على صديقين غريبي الأطوار، من القارة الثامنة، والقارة الثامنة هذه تستورد الخيال، وتصدر الحكايات، لكنها تصاب بالجفاف بسبب تراجع القراءة وقلة الخيال، فتتبنى ساردونيا وصديقاها إنقاذ الخيال والقارة الثامنة.

قد يوصَف السحر بالخيال، أو الخيال بالساحر، وفي الحالين تكون هناك علاقة وطيدة بين كلّ منهما، يتآلف العالمان لينسجا على أيدي الأدباء عوالم موازية، تجمع بين نقائض الحياة والواقع لترسم الحياة البديلة، الخرافية المتخيّلة، وإن كانت تستمدّ مادّتها الخام دوما من الواقع بطريقة أو بأخرى.

عن صحيفة العرب اللندنية

© Copyright 2020. All Rights Reserved