الرّوائي الذي خرج من خرم الإبرة..!

راشد الأحمد

بعد وأد قراءة الرواية بالإنتاج التلفزيوني، وظهور النثر في هذا الزّخم المخيف، مثلها مثل الكتابة المسرحيّة التي انقرضت، وضاعت بولادة الثورة التكنولوجيّة، كما تشير استبيانات الرأي، فإن نسبة القارئ العربيّ بشكل عام، لا تتجاوز نصف صفحة سنوياً، فهذا يعني أنّ سائر أجناس الأدب تعاني من تصحّر، وأميّة، فالقارئ الذي كان يبحث عن العمل بدأبٍ، لم يبق موجوداً، فراح الكاتب، وروايته يبحثان عنه، لترويج منتجه الفكريّ، لمستهلك نام نومةً أدبيّة طويلة.
في المشهد الأدبي السّوريّ، وهذه حقيقة، يمكن وصف الأدباء بالأطباء المختلفين حسب اختصاصاتهم في طريقة التعامل مع الفن الأدبي، علماً أنّه لا توجد أي علاقة عضويّة تربط المهنتين ببعضهما، ألاّ كمجاز، أو تشبيه، أو أي لون من علم البلاغة، فعملية إزالة زائدة دوديّة في جراحة الطب البشريّ تختلف عن مفهوم الصّورة وآليات تعامل الروائي كحبكة، وخلق الشّخصيات، والتعامل مع كلّ شخصيّة بمفهوم مختلف، مثلها مثل مفهوم الصّورة في الشّعر الحديث، وباعتبار أن لكلّ روائي أدواته في خلق روايته كعمل متكامل يبدأ بالعنوان الذي يثير فضول القارئ، فيه من الغرابة، والطرافة، والتشويق الكثير، ليمسك بغرائزه، وفضوله، واستغرابه، ويجّره، إلى دواخل الشّخصيات، والقضيّة الرّئيسة بتفاصيلها التي تسيطر على اهتماماته.
ليس من السّهل أن تسجّل اسماً في السّوق الثقافيّ، في عالمٍ ينتج آلاف الأعمال، بأسماء كتّاب لها مكانتها، بعد نشوء دور نشر، ومؤسّسات، ومواقع أدبيّة ، بهذا الكم، في ظلّ موجة تراجع، وندرة القارئ، ونحن في عصر الصّورة والاختزال يملؤها المشهد الإنسانيّ، والألم السّياسيّ، والمادة الإعلانيّة، نجد هيثم حسين أحد أهم الروائيّين السّورييّن الشباب، كُرديّ الهويّة، عربيّ اللغة، غزير الكتابة، قوي الفكرة، هادئ النفس في صنع وجبته الروائيّة، لا’يقوم بمغامرة أدبيّة في صنع رواية لا يعرف ماذا يريد منها، ولا يخاطب حدثك، ومدلولات الخيال العلميّ، وإن وجدت فبنسب محدودة جداً، يفتقدها الكثير من كتّاب الرّواية الشّباب، ومن كَهَلَ على كتابتها، وطريقة جديدة في تحديثها بما يتناسب مع الزّمان، والمكان المناسبين، كأسلوب يظهر مع القارئ فوراً الفوارق، فلا تشعر أبداً بكاتبٍ تناول، قضية، إشكاليّة، لأنّه بكلّ بساطة يضعك في صلب القضيّة، لتتماشى مع أحداثها، كما في عمله الأخير (إبرة الرّعب) الذي وقع بين يديّ مؤخّراً تحسّ أنّ كاتب الرواية قد خرج من خرم إبرة ليخبرنا عن سرّها.
حسين في مدخل (إبرة الرّعب) ينقل لنا، مفصّل عن بطل الرواية والأسباب التي منعته عن الدّراسة، كحالة مستعصية تقف أمام جيل كامل، فيها بلادة المعلمين، وغلاظتهم، كانتا سببين كافيين في نحر أحلامهم، كما حالة رضوان بطل الرواية، مشيراً إلى إخفاقاته المتتالية، متأثراً بحالة أخيه المتهورة، وفشله في إعفائه من الخدمة الإلزاميّة والذي كان يعاني من التوحد، وأبيه الذي لا حول له ولا قوّة، وصدمته مع روناك ابنة خالته، وغيرها كانت كافية أن تضعه أمام مصيرٍ مجهول، والفرار إلى الخدمة الإلزاميّة، أملاً أن تكون سبباً في تناسيها، ليبدأ مشواره مع (إبرة الرّعب)، وتفاصيل أشنع الجرائم، كنوع من الانتقام من المجتمع، والظروف، والواقع الذي حال به .
للروائي حسين ثلاثة أعمال روائيّة، وأخرى نقديّة، ولكن صدمتي معه كان في هذا العمل الذي وجد بعض النقّاد إشكالية في التعامل مع موضوع الجنس، وهوس الرّغبة في شخصيّة بطل العمل، عندما يجعل من الكبت، والقهر، والانتقام عبر إبرة التخدير، أداة الجريمة، وكيف يحقنها وهي ترتعش في أرداف الضحيّة المتمثلة بين يديه، داخلاً إلى عالمها الداخليّ ليكشف الخبايا، والأسرار، آخذاً من الحساسيّة المفرطة، داءً لتهرع نسوة القرية التي يقطنها، ليبدأ مسلسل تمارضهم، وشغف وولع صيّاد النساء، والمؤخرات المتمارضة، بعد أن يلقي علينا تفاصيل القرية التي يتّخذها مرتعاً لمهنته الممتعة، وواقع حالها قبل ذهابه، كيف كان المختار وزوجتاه المختصّتان في أمور الطّب، بالشّعوذة، مستغلين المساكين الذين لا يهمّهم سوى الأحاديث الدّائمة عن المطر، والجفاف، وبخل المواسم التي تبقيهم متأمّلين في انتظار المستقبل، الكاتب يضعنا أمام قضيّة في غاية الأهميّة تتفرع منها قضايا أخرى، ألا وهي الثقافة الجنسيّة، التي وجدت فيها الكاتبة الكويتيّة ‘سعاد العنزي’ في نقدها للعمل أنّها صادمة بكلّ المقاييس، آخذةً من الانحراف الجنسيّ، خروجاً عن المألوف، باعتبارها مواطنة من بيئة متحفّظة، مشيرةً إلى الغلط الذي وقع فيها الكاتب، ناسيةً أن الموضوع أكثر من مشاهد إباحيّة، وأنّ العينة التي أسقطت الكاتبة عليها، في مجتمعات أخرى باتت أمراً عرضياً، متّبعاً أسلوب الاختزال، خوفاً من النفور، ربّما رواية ‘خريف البطريرك’ لماركيز وإباحيّة المَشاهد تؤكد أنّها كانت السبب الرّئيسيّ لتلك الفورة العربيّة عليها، القضية الثانية التي تناولها الكاتب عبر شخصيّة رضوان هي موضع الفساد الذي عمّ مؤسّسات الدولة، وانعكاسه على المجتمع، وهو هنا يحضر في سرده تفاصيل ومجريات مستوصف الخدمة الإلزاميّة، الذي تدرّب فيها أثناء خدمته، وكيف كانوا يتّجرون، بالأدوات، والمواد، وحتّى أجزاء الجسم، باشتراك الضّابط المسؤول، حتّى عندما عمل لدى المشفى الحكوميّ، والحديث الذي دار بينه وبين طبيب التخدير، وقصص كثير من هذا القبيل، لتشكل بالمحصلة حالة رعب، وهلع للمجتمع من هكذا حالات .
حسين، الذي يتّبع الواقعيّة السّحريّة، بطريقة لا يترك للخيال أن ينال منه باعتبار تناوله في سرد تفاصيل واقعيّة لا تحوجوه إلى الخيال بمعناه الميتافيزيقي، آخذاً أسلوب السّرد الذّاتي في عرض الوقائع لإظهار الأحداث، بأسلوب مختصر ورشيق، وعمله ككاتب في النقد الأدبي كان كفيلاً في إنقاذه من المزالق الروائّية، حسين الذي خرج إلينا من خرم إبرة المجتمع الفاسد – الفساد حتّى رؤوس الأصابع – استطاع أن ينال عشرة على عشرة، متفوقاً حتّى على نفسه.


*كاتب وناقد سوريّ’

القدس العربي

© Copyright 2020. All Rights Reserved