هيثم حسين: العنف يرتبط بالإنسان أكثر من البيئة الجغرافية
مايا الحاج
في “إبرة الرعب”، غاص الروائي السوري هيثم حسين في قضايا راهنة، وحساسة بدءاً من الحرب والظلم والفساد، وحتى الاتجار بالبشر، والتحول الجنسي، والتطرف. لكن تنوع القضايا والشخوص والأمكنة جاء ضمن بناء متماسك، يبدأ من العالم الخارجي لينتهي في الذات الإنسانية، في عتمة الداخل حيث تترسب كل الانفعالات والمشاعر والأحاسيس.
تنطلق رحلة الرعب في رواية هيثم حسين من قرية نائية في شمال شرق سوريا ومروراً بدمشق وريفها وصولاً إلى بيروت، لتُحاكي واقعاً معقداً يعيشه المواطن العربي الغارق في صراعات الهويات القاتلة، منذ عقود إلى الآن. وقد اعتمد الكاتب في هذه الرواية تعدد أصوات الرواة، الأنسب لتغطية تعدد موضوعات الرواية بكل إشكالياتها وتعقيداتها.
وبعد نحو سبع سنوات على نشرها، صدرت “إبرة الرعب” بطبعة جديدة عن دار “خطوط وظلال” في الأردن، بالتزامن مع صدورها باللغة الفرنسية عن دار “لارماتان” في باريس، بترجمة أنجزها الباحث والمترجم التونسي منصور مهني. وعن هذه الترجمة وسر اهتمام الناشر الفرنسي بالرواية، يقول هيثم حسين: “ترجم الرواية أولاً المترجم التونسي منصور مهني، وهو صاحب باع طويل في عالم الترجمة، ويحظى بثقة الناشرين في فرنسا. ولعل الاختلاف هو جزء من عوامل الجذب للعمل، لا سيما أن هناك حفراً في بنية المجتمع بأطيافه المختلفة، وكيف أن الضحية “هنا” يمكن أن يتحول إلى جلاد “هناك”. الغرب أيضاً يحتاج إلى فهمنا لأنه يحار أحياناً في تركيبتنا النفسية، التي تكون مزيجاً من الغرائبية أحياناً، والرواية ترسم ملامح مجتمعات أو زوايا منها بطريقة يمكن أن تساعد على فهم أبناء هذه المجتمعات”.
دائرة العنف
تصور رواية “إبرة الرعب” الجانب المشتعل في منطقتنا، فهل العنف مرتبط دائماً بالجغرافيا؟ سألنا هيثم حسين فأجاب قائلاً: “لعل العنف يرتبط بالبشر أكثر من ارتباطه بالأمكنة، وهم ينقلونه معهم في حلهم وترحالهم، ما يبديهم مسكونين به بشكل مثير للاستغراب، وكأن لا حياة في هذه الجغرافيات المتداخلة من غير عنف واقتتال وتطاحن، أو كأن العنف وحده يمكن أن يكون طريقاً للعيش بـ”سلام” مخادع… وما يثير السخرية، أن كل طرف يبرر عنفه تجاه غيره بأنه رد فعل وأداة دفاعية، في حين يكون عاملاً رئيساً في إبقاء دائرة العنف مشتعلة تتغذى على الأحقاد والكراهيات التي تستمد بدورها مبررات استعارها من أوهام ووقائع تسبغ عليها نوعاً من القداسة. أمر شبيه بدائرة عبث وجنون تأبى أن تنتهي، ونحن جزء منها شئنا أم أبينا”.
الكتاب النقدي (دار خطوط وظلال)
في جانب منها، تعرض رواية هيثم حسين مسألة الانتماء بين الكرد والعرب والسوريين واللبنانيين، بحيث تحكي مثلاً عن مشاركة “الكردي السوري” في الحرب الأهلية اللبنانية عبر بعض الشخصيات، ثم المشاركة لاحقاً ببعض الكوارث التي خلفها قسم من الجيش السوري في لبنان، وتأثير ذلك على العلاقة بين السوري واللبناني من جهة، والعربي والكردي من جهة أخرى. فهل تعدد الهويات في إطار مكاني محدد هو سبب التقاتل الذي نعيشه واقعاً، وأبداً؟ يجيب حسين: “تتفاقم العداوات حين يشعر كل طرف أنه أولى بالسيادة والقيادة، وأن الآخر يجب أن يظل تابعاً له ومؤتمراً بأمره. ويتمظهر هذا العداء في سلوكيات تنحو عكس التعايش المفترض والواجب لتدخل في نفق الاحتراب والتناحر، والسباق على تعزيز القوة والنفوذ من خلال اللجوء لقوى خارجية تفرض بدورها شروطها، وتنعش أتباعها وتبقيهم مرتبطين بها بشكل يقصيهم عن واقعهم وتاريخهم ومصيرهم المشترك مع أبناء بلدهم، ممن يفترض بهم أن يكونوا إخوة لا أعداء. للأسف بات هناك طيف ضمن هذه المكونات المختلفة في منطقتنا ينظر إلى الآخرين من منطق الاستعداء، أو كما يقول مثل كردي، فلان ينظر إلى الآخرين من فوهة البندقية. ولا يخفى أن مَن ينظر لغيره من فوهة البندقية سيبحث عن مقتل ليطلق عليه الرصاصة ويرديه قتيلاً، ولن يجد فيه أي آخر يستحق العيش أو أي شريك يستحق البقاء، ولن يفكر في أسباب الحياة، بل سيلجأ إلى أبشع سبل التصفية والقتل. والناظر من فوهة البندقية (من كل بد) يجد في الآخر طريدة وصيداً يجب قنصه والتنكيل به، كي لا تقوم له قائمة تهدد وجوده لاحقاً، أو مستقبله الذي يتخيل أنه سيكون ذا لون واحد بعيد عن ألوان الحياة الأخرى من شركاء في الجغرافيا والتاريخ والمصير”.
وساوس القهر
وإزاء هذا الاستنفار الدائم بين أبناء المنطقة الواحدة، على اختلاف هوياتهم وانتماءاتهم، يقول هيثم حسين إنه “لا يمكن لأحد أن يحمل أرضه على ظهره ويمضي بها بعيداً عن الآخرين، الذين يرى فيهم تهديداً عليه، لذلك لا مناص من البحث عن سبل للتعايش وتقبل الآخر بعيداً عن وساوس القهر والعنف والعداء التاريخي المتجدد”. وهو يعطي تجربةً من واقع يعيشه في لندن، حيث يمكن المرء أن يصادف عشرات الهويات المتعايشة، المتجاورة في مكان بعينه، في شارع أو حي، وكل واحد يتقبل الآخر ويحتفي باختلافه، ويجد فيه ثراء للوحة المدينة التي تغتني بالتعدد والتنوع، في حين أن بلداننا تكاد تضيق بأبنائها، ويكون التقبل الوحيد للآخر أن يكون عبداً أو سجيناً أو مقتولاً أو ذليلاً أو مهاناً أو مسحوقاً. وهذه خيارات تضخ مزيداً من القسوة على الواقع وتفسح مجالاً أوسع للتحارب و”التلاغي” والتقاتل”.
الترجمة الفرنسية لرواية “إبرة الرعب” (دار لارماتان)
وبما أنه توقف عند لندن، سألناه عن هذه الهجرة وكيفية تأثير الانتقال المكاني عليه ككاتب، فأجاب: “في الحقيقة أعيش يوميات البلد وما يحدث فيه من أحداث قاهرة ومفجعة، وعلى الرغم من أنه مر على خروجي من سوريا أكثر من ثماني سنوات، إلا أنني أشعر بأني غادرت قبل بضعة أيام لا غير. الحرب مستمرة بطريقة وحشية لا تفسح أي مجال للتخلص من تأثيراتها النفسية. بت أرى المشهد بشكل أوسع، حيث الأمر يختلف بين أن تكون مكتوياً بالنيران وفي قلب أتونها، وبين أن تكون على مسافة منها ترى تدميرها الكارثي على راهن البلد ومستقبله، وفي هذه الحالة أيضاً لن تجد سبيلاً من تلافي ألسنتها الحارقة على روحك ووجدانك. تنتابني مشاعر مختلطة، متناقضة، أحياناً أشعر أني مسكون بحكايات قهر لا يمكن أن أشفى منها، ألجأ إلى الكتابة كي أهدي بعضاً من تأثيراتها علي، وفي أحيان أخرى أحدث نفسي أنني ولدت ونشأت وكبرت ونضجت في بيئة ملعونة وفي جغرافية تعتاش على العنف والدماء والأحقاد، وأن الخلاص من كل هذا يبدو ضرباً من الاستحالة، ولكن على الرغم من ذلك أبحث عن درب للخلاص والهدوء والسلام، على الأقل نوع من السلام الشخصي المأمول”.
وفي سياق آخر، صدر للكاتب هيثم حسين كتاب نقدي جديد بعنوان “لماذا يجب أن تكون روائياً”. فماذا عنه؟ وكيف يرقى إلى مكانة المثقف ودوره في زمن فقدت فيه كل الاشياء قيمتها ومكانتها؟ يجيب هيثم قائلا: “هو كتاب يعبر عن رؤيتي للكتابة الروائية ولهندسة العالم الروائي بكل بنياته وتفاصيله ومفرداته وسحره. يقودني الشغف في النقد وفي الرواية، ولا أقف عند سؤال الماهية بقدر ما تشغلني أسرار الكتابة وعوالمها.. وكينونة كل امرئ تتحقق بناء على كثير من الرغبات والأحلام والأوهام، وغير ذلك من التفاصيل التي تكمل رسم ملامح هويته المنشودة. لا أخفيك أنها تنتابني كثيراً أسئلة عن دوافعي للمغامرة والاستمرار في الكتابة في عالم يحتفي بالعنصرية والعدوانية والإجرام، لكن فعل الكتابة يقصي هذه الأسئلة لمصلحة الانتصار لفكرة الحياة والتشبث بالأمل، لأن أي شيء عدا ذلك يكون عبارة عن اغتيال بطيء للروح، وتجفيف لجماليات نرويها لكي نقنع أنفسنا أن هناك ما يستحق إبقاء الأمل بالغد حياً من أجله. أنا أؤمن أن الحياة تحتاج إلى كل هذه الأشياء، مهما ظننا أو خيل إلينا، أو قيل لنا، بأنها فقدت قيمتها ومكانتها، لأنها أجزاء ضرورية تكمل لوحة الحياة نفسها. وعلى الصعيد الشخصي أحتاج أن أبقي الإيمان بها حياً في داخلي كي أستطيع أن أحيا لغاية، ورحلة كل امرئ في النهاية هي نُشدان للمعنى والجوهر، ولا يمكن أن أرضخ لأي زعم ينال من قيمة الأدب وينتقص من مكانته في تاريخ العالم، وإن بدا أنه يحقق حضوراً باهتاً في راهننا، وأن صوته وتأثيراته يخفتان بطريقة محزنة، لكن هذا لا يعني أنه لا حاجة لنا به، أو أنه عبء ينبغي التخفف منه في سباق السرعة الذي يجتاح حيواتنا. ولاشك أن الكتابة بما تحمله من جماليات وعوالم وأسرار تبقى قيمة بذاتها، والأدب يبقى بذاته، رسالتنا إلى جيلنا وإلى الأجيال اللاحقة”
عن إندبندنت عربية
.