هل تنقذ المغامرات الجنسية والعاطفية من الكآبة والخسارات
هيثم حسين
تظهر الروائية الأميركية جين بولز في روايتها “سيدتان جادتان” تأثيرات بعض الميول الفوضوية لدى عدد من نساء الطبقة الأرستقراطية، وتبرز كيف أن عالمهن يتداعى وينهار نتيجة لسعيهن المرضي نحو إرواء شهواتهن وميولهن الغرائبية.
تحكي بولز في روايتها الصادرة عن الكتب خان بالقاهرة بترجمة وائل عشري، عن “كرستينا جويرنج” و”فريدا كوبرفيلد”، وهما صديقتان تحاولان خوض مغامرات وتجارب غريبة وخطرة، وذلك في سياق البحث عن معنى منشود ومفتقد لحياتهما، بحيث تتورّط كرستينا في عدد من العلاقات البائسة مع بعض الرجال الغريبين، وتقع كوبرفيلد في الحب، فتترك زوجها، لتصبح أنانية وقاسية.
ملتقى الهزائم
البوح بين الامرأتين يتخذ شكلا صداميا في النهاية، بحيث يتحول إلى نوع من التجريح عبر المكاشفة والتعرية
تشير الروائية إلى أن لقاء الخسارات، أو ملتقى الهزائم، يكون حين تحاول الصديقتان المغامرتان إحصاء خساراتهما الحياتية، وكيف أنهما وصلتا إلى تلك النهاية وفقدتا ما كانتا تتمتعان به من امتيازات.
تعود بولز إلى مرحلة الطفولة لتصوّر جانبا من العقد النفسية التي كانت تغرق شخصياتها، وتمنعها من التأقلم مع محيطها بالصور والصيغ التي تنشدها، فكرستينا التي كان والدها رجل صناعة من أصول ألمانية، ووالدتها سيدة نيويوركية من عائلة مرموقة جدا، عانت من التهميش والإقصاء والكراهية حين كانت طفلة، على عكس أختها صوفي، كما عانت معاناة فظيعة من أفكار لم تكن لترد قط على خاطر أي من رفاقها، وتقبلت مكانتها في المجتمع كأمر مسلّم به، وهو الأمر الذي لم يكن ليحتمله أي طفل آخر.
كانت أختها صوفي تنصحها بأن عليها أن تجد بنفسها أمرا تفعله، وكان من الصعب عليها أن تفكر في شيء تفعله وحدها وتستمتع به، كما كانت معتادة على الدخول في صراعات عقلية عديدة، ذات طابع ديني غالبا، وكانت تفضّل أن تكون مع الآخرين وتنظّم ألعابا تظهر بها حضورها وشخصيتها.
تصف السيدة جويرنج بأنها لم تكن كامرأة بالغة محبوبة أكثر من الوقت الذي كانت فيه طفلة، وكانت تعيش في بيتها خارج نيويورك، مع مرافقتها، الآنسة جيملون، وتجد في المسامرات وما يتخللها من نمائم بعضا من السلوى والتسلية التي تغدو مريرة مع الزمن.
يكون اللقاء الأول بين السيّدتين عاصفا، تلاحظ جويرنج أن عيني السيدة كوبرفيلد كانتا أكثر بريقا من المعتاد، تسألها إن كان هنالك أي خطب، فتخبرها كوبرفيلد بخبر الرحلة التي تنوي القيام بها، وتتحدث قليلا عن زوجها وعن بعض المستجدات التي تمر بها في حياتها اليومية..
ترحل كوبرفيلد مع زوجها في رحلة بحرية، تشتاق لليابسة، تجد أن اليابسة ألطف من البحر، وقبل الوصول يدور جدال بينها وبين زوجها عن آليات إنفاق المال، إذ لا يرى زوجها من ضرورة في الإنفاق على رفاهية لن تكون له إلا لأسبوع على أقصى تقدير، يجد أن من الممتع أكثر أن يشتري أشياء تبقى من بعده ربما لحياة أخرى. ويحاول إيجاد فندق رخيص في البلدة، ويكون بمقدورهما أن ينفقا مالهما على أشياء يعتبرها أكثر إثارة.
وعلى الرغم من أن النقود كانت لكوبرفيلد وليس لزوجها، فإنه كان يبخل في صرفها، ولم تكن كوبرفيلد لترضى بما يقترحه عليها من تقتير، وتراها تقول لنفسها إن النقود في معظمها هي نقودها، وإنها من ستدفع مصروفات رحلتهما، ولم يكن باستطاعتها أن تكتسب شعورا بالقوة من خلال تذكير نفسها بذلك.
عنف وصدام
تنقل الروائية بعد اعترافات السيدة كوبرفيلد لكرستينا وتصريحها لها بأنها تغامر من أجل الوصول إلى سعادتها المتخيلة، وأنها تغار من فتاة تصفها بأنها سرقت شخصا لا تستحقه، وتقول إنها تعرف بأنها مذنبة كما يمكن أن تكون، ولكن عندها سعادتها، وهي ما تحرسه كذئب، وعندها سلطة وقدر من الجرأة بحيث يمكنها أن تمضي في مغامرتها لتحصيل ما أمكنها منها.
تصل كوبرفيلد إلى مرحلة من السكر وهي مع صديقتها، وتبوح لها بأن الأمر يتطلب الكثير من الشجاعة من أجل العيش مع رجل مثل زوجها، وهو ما لم تعد راغبة به ولا قادرة عليه، لأنها تودّ أن تختار ما يناسب حياتها وطموحاتها لا ما يقيّدها ويبقيها أسيرة توجهات وإملاءات رجل لا يعرف قيمتها كما يجب.
تتمنّى السيدة جويرنج أن تطرح عليها كوبرفيلد أسئلة تخص حياتها هي، وكانت لديها رغبة عارمة في أن تخبر أحدا ما بكل شيء حدث لها خلال الفترة الماضية، لكن صديقتها انشغلت بتجرّعها الشراب، والارتحال في عالم التخيلات والاعترافات التي تكشف من خلالها الذكريات التي مرت بها، والآلام التي قاستها بطريقها.
تؤكد كرستينا لصديقتها أن أعمال العنف عادة ما تؤدّى بيسر وسهولة، ويكون حديثها عن العنف انعكاسا لرغبة عارمة تسكنها بتصدير عنف يسكنها ويدفعها للتعبير عما يعترك في كيانها من صراعات بين ما تريده وما يكون على أرض الواقع، وتشتتها وضياعها وخيبتها.
تكثّف بولز في المشهد الختامي معاناة جميع الأطراف وكيف أن البحث الوهمي عن السعادة قد يغرق المرء في متاهات لا تخطر له على بال، ويكون الهروب إلى الأمام أحيانا محطة خيبة على طريق الهزائم المتتالية التي يمر بها في رحلته نحو بلورة تصوره المتخيل من السعادة.
تقف بطلتها كوبرفيلد في الشارع وتنتظر من دون نتيجة أن تغمرها البهجة والارتياح، لكن سرعان ما تعي بوجود نوع جديد من الحزن بداخلها، وتشعر بأن الأمل الذي كان يراودها ليس إلا شكلا طفوليا منبوذا إلى الأبد في حياتها وتاريخها.
وتقر كرستينا في النهاية، وتكون حالتها كحالة من لا يملك أي خيار آخر، بأنها أقرب إلى أن تصبح قديسة، وتتساءل عما إن كان هناك احتمال أن يكون هناك جزء مخفي منها عن ناظرها يراكم خطيئة فوق أخرى بنفس سرعة السيدة كوبرفيلد، وتعتبر أنّ هذا الاحتمال على درجة لا بأس بها من إثارة الاهتمام لكنه ليس على قدر كبير من الأهمية.
تصف الروائية الأذى الذي يخلفه هجر أحد الشريكين للآخر، وكيف يظل ذلك ذكرى تحفر بقسوة في قلب المرأة طيلة ما يتبقى من حياتها، وأن جميع محاولاتها لتحرير نفسها من سطوة ذلك الأذى وما يخلفه من أسى تاريخي لها لا تستدل إلى طريق للخلاص.
تلفت بولز إلى أن البوح بين الامرأتين يتخذ شكلا صدامياً في النهاية، بحيث يتحول إلى نوع من التجريح عبر بوابة المكاشفة والتعرية، تصرح كل منهما للأخرى بأنها تغيرت وفقدت فتنتها ورونقها، بحيث يكون التغيير بارزا وفارضا سلوكيات بعينها تتناسب مع ما يمليه.
يشار إلى أن جين بولز (1917 – 1973) كاتبة أميركية ولدت في نيويورك لأسرة ثرية، وتوفيت في مالقة بإسبانيا. لها مسرحية بعنوان “في البيت الصيفي” ومجموعة قصصية بعنوان “متع عادية”، و”سيدتان جادتان” هي روايتها الوحيدة صدرت عام 1943.
عن صحيفة العرب