“كافكا الخاطب الأبدي” تصوير دقيق للشغف والإبداع
هيثم حسين
تدخل الروائية الفرنسية جاكلين راؤول دوفال عوالم أكثر الشخصيات الأدبية تعقيدا، الكاتب التشيكي فرانز كافكا، حيث تسرد جزءا من علاقاته في مزيج بين ما هو حقيقي وتاريخي وسيري فعلا، وما هو متخيل، خاصة في كشفها لخفايا شخصية كافكا وعلاقاته.
تفتتح الفرنسية جاكلين راؤول دوفال روايتها “كافكا الخاطب الأبدي” بلقاء كافكا بصديقه الكاتب ماكس برود سنة 1903، الذي كان زعيماً طلابياً، ينشط حلقة طلابية وينظم ندوات في الأدب والفلسفة، وهما مجالا شغفه، وذات مرة كان يقدم عرضاً في فلسفة شوبنهاور، فوصف نيتشه بالدجال، فصفق له الحضور، لكن بعدها تقدم منه كافكا الذي كان مجهولاً له حينها، وأخبره أنه لا يمكن نعت نيتشه بالدجال، ثم شرح وجهة نظره التي أفحمت برود.
الكتابة غاية حياة
تصور دوفال في روايتها، الصادرة عن منشورات تكوين، بترجمة محمد آيت حنا، كيف بدا كافكا لصديقه وكأنه أحد أبطال دوستويفسكي، وأثار لديه تساؤلات كثيرة إثر ظهوره المفاجئ واختفائه السريع، وهو الذي لم يسبق له أن رآه قط، واستغرب أنه لا يخالط أية مجموعة، ولم يسبق له أن بادر إلى الكلام، ودفعه إلى السؤال عما كان يقرأ الفلاسفة بعناية أكثر مما يفعل أي منهم.
تحكي الروائية عن تعمق الصداقة بين ماكس وكافكا، وأنهما صارا لا يفترقان، يتحمسان للكتب والأفلام نفسها، وأسر له ماكس أنه يكتب، لكنه يتهيب إطلاعه على قصصه، فهي ليست في مستوى متطلبات صديقه الأدبية؛ تلك المتطلبات التي كانت تزعجه حتى أكثر من زهده وغرابة أطواره.
تصور جاكلين لحظة لقاء كافكا بالحسناء فيليس باور التي كانت تجمعها قرابة بآل برود، وأطلعها كافكا على الصور التي التقطها في منزل غوته، وكانت شاملة لكل زوايا البيت، وأدق تفاصيله، وتشعب الحديث بينهما على إثر ذلك، بحيث تعرف كل منهما إلى الآخر أكثر، وتقرب منه، ونشأت بينهما علاقة وطيدة.
يخبرها ماكس حين تسأل كافكا إن كان هو أيضاً يكتب، بأنه تحديداً هو من يكتب، وأن الكتابة غاية حياته، وأن رأسه يشكل قصصاً مبهرة، فيجن إن لم يكتبها، ويقول إن ما يكتبه ليس إلّا أدباً.
يدور نقاش بين كافكا وبرود حول العجلة في النشر، يعلق كافكا على تسرع صديقه بالنشر، ويؤكد له أنه لا داعي لنشر نص لم يبلغ درجة الكمال، وأنه ليس مستعجلاً، وأن الإنسان طرد من الجنة بسبب عجلته، وأن عجلته هي ما يمنعه من العودة إلى مراجعة قصصه، ثم أنه لا يريد أن يخيب أمل ناشره مرة أخرى.
تصور أجواء كتابة كافكا رسائل إلى فيليس سنة 1912، وذلك تحت عنوان شغف بلا حب، وكانت رسالته تحمل شعار شركة التأمينات العمالية التي كان يشغل منصباً هاماً فيها، قام بتذكيرها باللحظات الممتعة التي قضياها معاً، ثم بعد ذلك في رسائل أخرى بدأ يبثها لواعجه وأشواقه، ويعبر لها عما يعانيه من أجلها، وكأن الكتابة كانت الغاية وليس الحب المفترض نفسه.
تشير إلى أنه كان يعاقب نفسه على شدة تعلقه بأسباب الرفاه، فالخادمة التي قد تنسى حمل الماء الساخن إليه صباحاً، قد تقلب عالمه رأساً على عقب، وأنه دائماً ما كان شعور الرفاه يضطهده، يشعر أنه يحصله بالتسول، بالبكاء، بالتخلي عن أشياء أهم.
تنقل اعتراف كافكا في يومياته، حين كتب مصرحاً عما يجول في داخله شوقاً وحنيناً إلى امرأة تفهمه وتستوعب جنونه وغرابته، بالتأكيد على أن يجد المرء بجانبه من يفهمه، امرأة على سبيل المثال، معناه أن يكون مسنوداً من كل جانب، أن يكون الرب معه. يطالب كافكا فيليس بأن ترسل إليه صورها، كي يهدئ بعض أشواقه إليها، يهيم في تأمل صور صديقته البرلينية، وصار يطالبها بالمزيد كل مرة، وقال لها، إنّ وجهها لا يمكن أن يدرك إلا عبر ألف صورة، وصار يريد صوراً لأهلها، وما إن استلمها حتى يبادرها بالأسئلة عن مكان وزمان الصور، وجميع التفاصيل التي تحيط بها، ويسر لها بأن الصور جميلة، ولا يستغني عنها، لكنها في الوقت نفسه مصدر عذاب، لأنها لا تعطيه أبداً ما يكفي من التفاصيل.
شرارة متوقدة
تلفت الروائية إلى أن كافكا أرجع نسب روايته الشهيرة “التحول” إلى فيليس، تلك الرواية التي وصفها إلياس كانيتي بأنها أهم عمل أدبي في القرن العشرين، والتي ألهمت كثيراً من الأدباء والكتاب وفتحت أمامهم دروباً غير محدودة من التخييل، كغابرييل غارسيا ماركيز الذي اعترف بفضلها عليه، وتأثيرها الكبير فيه. تحكي كيف أن كافكا كان قارئاً نهماً محاطاً بالكتب، يقرأ سيراً ذاتية، ومذكرات، وروايات، ودراسات، ودواوين شعرية، وتلك النصوص التي تثير حماسته يعيد قراءتها أكثر من مرة، ويسأل صديقته عن قراءاتها، وحين تحبطه اختياراتها، يوصيها بقراءة فلوبير، دوستويفسكي، وغوغول وديكنز، ولائحة من الكتاب الذين تعجبه أعمالهم، وتراه يخبرها أنّه لا ينبغي أن نقرأ إلا الكتب التي تلدغنا وتلسعنا؛ على الكتب أن تكون بمثابة الفأس الذي يكسر بحر الجليد فينا.
يكشف كافكا لصديقته أنه يكتب قصة تجري أحداثها حصراً في أميركا، وأنها أول عمل طويل نسبياً يكتبه بعد خمس عشرة سنة شكلت له عذاباً فظيعاً، وأن عليه أن ينهيه، وأن اللحظات القليلة التي كان لينفقها في كتابة رسائله سوف يصرفها إلى الاشتغال على عمله الذي بلغ كل شيء فيه حالة النضج واتخذ سبيله، ويرجوها ألا تتركه لوحدته.
تنوه الروائية إلى أن كافكا كان يحتاج إلى الشغف الذي يشعر به تجاه فيليس، شغف بلا حب، وأنّ فيليس مدته بالقوة، والحماس اللازم، وأشعلت فيه الشرارة، وأبدعت في أداء المهمة التي حددها لها مساء لقائه بها، كان يرتحل بخياله بين برلين ونيويورك، ولم يتردد بين سعادة أن يرى المرأة التي يحبها، وسعادة أن يخرج إلى العالم بطلاً، اسمه كارل روسمان، ويجعله يعيش في مدينة هائجة، تقع في الطرف الآخر من الكوكب، هناك حيث يعلم أنه لن يذهب. وتحت عنوان “انتصار الزمن وخيبة الأمل” تصور جاكلين مشهد كافكا وهو يقرأ كلمات فيليس تخبره أن كل شيء ما زال حقّاً كما كان من قبل، وأنها ترجوه أنه لا داعي للقلق مجاناً، وهو الذي حاول أن يبعدها آملاً في أن يجنبها آلاماً أكبر، لكنه أخفق، ويتعذب من أجلها، يقاوم ضد نوبات قلقه ويأسه، يقول ساخراً إن القوة التي يلزمه أن يبذلها ليبقى حياً، وليحافظ على صوابه كافية لبناء الأهرام.
بعد كثير من التفاصيل والأحداث التي تسردها، واقعية ومتخيلة، والفراق الذي حصل بين كافكا وفيليس، تختم دوفال بتذييل تؤكد فيه على رغبتها المتمثلة في شيء واحد، أن تلتقي ابن فيليس، أن تسمع هذا المحلل النفسي يتحدث عن أمه والذكريات التي حفظتها عن خطيبها الشهير، وأنها بينما كانت تخطط لرحلة إلى نيويورك، كتب إليها صديق لها يخبرها أن هنري ماراس قد مات، وكان في الحادية والتسعين من عمره.
وتقرّ دوفال أنها إذا أحصت عدد الناس الذين وضعهم رجل براغ في طريقها، وتقول إن الكتب تشبه عجين حجارة سور الصين، إنها تخترق الفضاء وتسد الثغرات، وتقيم تقاطعات وتتحدى الخيال، وتحمينا من البرابرة.