قد لا يبقى أحد لهيثم حسين: تأملات في المنفى والخوف
مها حسن
(اللاجئون في المكان وليس منه، فهم معلّقون في فراغ مكاني توقّف فيه الزمن، فلا هم مستقرّون، ولا هم متنقلون، ولا هم من أهل القعود، ولا هم من أهل الترحال)، هكذا يصف الكاتب هيثم حسين نفسه متجسدا في توصيف زيغموند باومان في كتابه “الأزمنة السائلة” ليحاول الكاتب السوري خلال صفحات كتابه “قد لا يبقى أحد” التعرف إلى عالم اللاجئين الجدد، لاجئي الحرب السورية المنتشرين في أوروبا، وليحاول كذلك تعريف هذا الكائن الجديد، الذي سينتقل من محطة إلى أخرى، ليكتسب تصنيفات جديدة، وتعريفات طارئة، وليحاول في كل مرة، أن يجد جواباً لكينونته المتقلّبة.
يحمل هذا الكتاب الكثير من المفاجآت وكسر التوقعات. إذ إن هيثم حسين ينوس بين كتابة الرواية، وكتابة النقد، إذ بدأ روائياً في “آرام سليل الأوجاع” في 2006 في دمشق، ثم أصدر رواية “رهائن الخطيئة” في 2009، ثم أصدر أول كتبه النقدية، في 2011 “الرواية بين التلغيم والتلغيز”، وتبعه بكتابه النقدي الثاني “الرواية والحياة”.
يمكن القول إن كتابه الأخير يختلف تماماً عن جميع كتبه والتي وصل عددها إلى عشرة، بين الرواية والنقد، حيث يفتح هيثم حسين أبواب المكاشفة والاعترافات. كما أن الكتاب يركز على نوعين من الأفكار الجديدة، أو التجارب الطازجة في العالم العربي، بعد الخضّات العنيفة التي تعرضت لها المنطقة منذ بداية الربيع العربي ونتائجه الدموية الصادمة، فهو يفتح الباب أمام القارئ للاطلاع على التجربة الطازجة غير المألوفة، للهجرة الجماعية المذهلة التي وقعت للسوريين، ومن ناحية ثانية، يعرّفنا بعوالم الكاتب المهاجر.
أدب المهجر أو التهجير؟
يجد القارئ نفسه أمام أدب مهجر سوري مختلف. لا يرتبط بأية علاقة مع أدب المهجر القديم، حيث الهجرات إلى حد ما، فردية من جهة، واختيارية من جهة أخرى. بينما هذا الأدب السوري، يتبدّى في أحد وجوهه الحالية، كأدب مهجر، هو أدب مهجري طارئ وقسري، يمكن توصيفه بأدب التهجير الجماعي. لهذا كان لا بد لهيثم حسين على ما يبدو الاستجابة لهذا القلق الطارئ للمهاجر القسري.
الحديث عن القلق يبدو ترفاً هنا، فالأمر لا يتعلق أبدا بصعوبات الوصول وفهم العالم الجديد، بل يتعلق بالذعر والصدمة. ويبدو هذا من العنوان، المتقاطع مع كتاب أغاثا كريستي، التي كتبت أدب الجريمة والخوف، ولكن الفارق هنا أن الجريمة جماعية حيث المهدد بالخوف هو الشعب السوري برمته، وخاصة، ووفق الكتاب، الجزء المهاجر، أو بالأصح، النازح، أو المهجّر.
نعم يبدو الخوف من العنوان: قد لا يبقى أحد، أي أننا أمام احتمال محو وإزالة الجميع. من هنا سيبدأ الكتاب، من خوف الإزالة والإلغاء، ليقوم الكاتب بفعل الكتابة، ليثبت، ربما لنفسه أولاً، وللعالم، أنه موجود، وأن الشعب السوري لا يزال هنا، ولكنه قد يتلاشى.
إن أهمية هذا الكتاب، تكمن في دمج الخاص والعام، عبر سرد حكايات اللجوء، بطريقة أدبية وأخلاقية. حيث يقبل الكاتب بالحديث عن علاّته ومخاوفه في محطات تنقلاته القسرية باحثاً عن الأمان. ورغم المعاناة التي يحياها السارد في محطات لجوئه، واسترجاعه حيواته السابقة في بلاد المهاجر المتعددة، فإن ثمة متعة لا تفارق القارئ، وهو يطّلع على مفارقات وتناقضات الحياة الجديدة في المهجر، مثلاً أن تصادف إقامته في مخيم اللاجئين المؤقت، قبالة سجن ويكيفلد، ليصف الكاتب هلعه وصعوبة نومه، والسجن على بعد أمتار منه، وكأن ثمة خطة قصدية لبث الرعب في قلوب اللاجئين القادمين إلى بريطانيا، أو أن يسمع صوت (مدفع أدنبره) الذي يبدو طقساً ساحراً مميزاً للمدينة، لكن الصوت يحرّك ذاكرة أصوات الانفجارات التي كان يسمعها البطل في سورية… وهكذا وعلى مدار صفحات الكتاب الغنية بالمصادفات والمقارنات والمفاجآت بل والاعترافات، ينقلنا هيثم في رحلة مليئة بالأسئلة والشكوك والخوف.
ولأن الكاتب ليس وحده مركز الحكاية، فإن قيمة هذا الكتاب تظهر من خلال سيره داخل مسارين، الأول أدبي يتمتع بالعاطفة الإنسانية العميقة ومسار إنساني أو توثيقي، يتعلق بشرح أوضاع اللاجئين، ممهّداً لنوع جديد من الكتابة، عبر السرد التوثيقي الواقعي الأقرب إلى الشهادات الأدبية، حيث الكاتب ليس ناقلاً لقصص الآخرين، وموثقا لها، إنما هو صاحب الحكاية، من هنا أيضا تحسب لهيثم حسين براعة نجاته من نرجسية السرد الذي تتسم به أغلب السير الروائية، التي يتحول فيها الكاتب إلى بطل أو ضحية، ليحصل على تعاطف القراء في الحالتين، لكن حسين لا يخشى من رأي القارئ أو تفسيره لمخاوفه وتساؤلاته الصادمة أحياناً، حين يسأل مثلا: (هل يمكن أن أتخيل نفسي قاتلاً؟)، متحدثاً عن الشاب السكير الذي كان يتحرش بفتيات القرية، بسرد يذكرنا ببطل (كامو) في السقطة، حالماً بتسديد لكمة للرجل الذي ضربه، بينما حلم هيثم بقتل الشاب الذي كان يزعجه ويستفزّه ليدافع عن نفسه وعن زوجته، وراح يصوّر في داخله سيناريوهات القتل.
شهادات الذين بقوا
يمكن اعتبار الكتاب وثيقة عن أهمية الأدب السوري الجديد، البعيد عن التخييل. وثيقة يمكن استعمالها ذات يوم، كإحدى مقدمات الكتابة عن أدب اللجوء السوري، بعد أن شاع أدب السجون، أو (أدب الحرب)، بل يستحق هذا الكتاب أن يكون مرجعية لدراسة سيكولوجيا اللاجئ المعقّدة. لاجئو الحروب الجديدة، الذين تتقاطع تجاربهم مع لاجئي الحروب السابقة، مع إضافة خصوصية اللاجئ السوري الذي خرج من بيئة وثقافة، تختلفان عن ثقافة البلاد التي ذهب إليها من ناحية، وعن ثقافة اللاجئين الآخرين القادمين من دول أخرى.
“قد لا يبقى أحد”، كتاب صادر عن دار ممدوح عدوان. هو كتاب الخوف من الزوال، كتاب دوّنه كاتب من الذين بقوا ليدوّنوا شهاداتهم عن هذا العالم، بشقيه: الذي رحل، والذي بقي.
عن صحيفة العربي الجديد