“قد لا يبقى أحد”.. السيرة الذاتية من الوجدانيات الحميمية إلى القضايا السورية
علاء رشيدي
خصصت جلسة برنامج (متن) حوارات في الأدب، التي تنظمه مؤسسة اتجاهات، هذا الشهر لمناقشة كتاب (قد لا يبقى أحد، أغاثا كريستي تعالي أقول لك كيف أعيش) للكاتب (هيثم حسين)، تحاوره فيها الروائية المصرية (منصورة عز الدين).
لجوء الروائي إلى السيرة الذاتية:
يختار الروائي والناقد الأدبي (هيثم حسين) نوع السيرة الذاتية في كتابه الأخير بعنوان (قد لا يبقى أحد) موضحاّ ذلك من العنوان الأساسي على الغلاف، (سيرة روائية)، مما يفتح التأمل النقدي على نوع السيرة الذاتية، وخصوصاً حين يختاره ناقد أدبي، وصاحب العديد من الروايات، كما هو حال المؤلف، ليحملها مقولاته الذاتية وموضوعاته السياسية والاجتماعية. فهو من النص الافتتاحي في الكتاب، بعنوان (مدونة) يشرك القارئ بالتساؤل عما يمكن أن تحمله السيرة الذاتية بالنسبة لروائي: “تجتاحني الأسئلة التي تنبش علاقة الروائي بذاته وبكتابته والشخصيات التي يخترعها، وإلى أي مدى يتحرر من ذاته أو يتقوقع عليها؟ وإلى أي مدى يمكن أن يعترف بالوقائع والحقائق وهو الذي اعتاد على تلبيسها لشخصياته. أين الحقيقة وأين الخيال في ما يسرده الروائي حين يكتب جانباً من سيرته الذاتية؟“.
إن حجم البوح، ومشاركة الأفكار، والنقاشات التي يطرحها الكاتب على القارئ، تبين أن الروائي قد رغب أن يكون هو بشخصه منطلق التجربة الوجدانية، الشعورية، الذهنية التي يرغب أن يناقشها داخل كتابه، بدلاً من تحليل الشخصيات التخيلية. هذا دافع قوي لاعتماد السيرة الذاتية، وهذا ما يذكر بالكتاب الأبرز الذي نظر إلى نوع السيرة الذاتية، والذي برز في الخمسينيات مع الدراسات النقدية في تلك الفترة، وترجم إلى العربية بعنوان (السيرة الذاتية الميثاق والتاريخ الأدبي، فيليب لوجون)، والذي يفرد فيه الصفحات الأولى للتمييز بين وضعية القارئ النص بين الرواية والسيرة الذاتية.
سيرة أغاثا كريستي، وسير اللاجئ:
العتبة الروائية التي اختارها الكاتب لتلازم سيرته الذاتية، هو المقارنة، المحاورة، وطرح الأسئلة انطلاقاً من يوميات الكاتبة (أغاثا كريستي) التي كتبتها في زيارتها لمنطقة عامودا في سوريا في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي نشرت تحت عنوان (تعال قل لي كيف تعيش)، وهي برفقة عالم الآثار البريطاني (ماكس مالوان) زوجها.
هنا (هيثم حسين) هو الذي يتوجه بالسؤال إلى الكاتبة كريستي: “عزيزتي أغاثا، هل كنت سعيدة هنا؟ تقولين في كتابك كم هو بسيط هذا الجزء من العالم، نعم العقل الشرقي بسيط للغاية، فالموت قادم لا محالة، إنه مصير محتوم كالولادة”، ومن خلال هذا التباين بين رحلة كاتبة وعالم آثار بريطانيين إلى المناطق السورية، وبين الرحلة القسرية التي يعيشها الكاتب السوري بين حتمية النزوح وجبرية الهروب من الحرب والموت، يبتكر (هيثم حسين) في سيرته الذاتية ما يشبه العتبة الروائية، التي تعود بين الفترة والأخرى لتفتح السرد من جديد: “عزيزتي أغاثا، قلت في كتابك أن مسألة الدين شائكة في هذا الجزء الخاص من العالم، لأن سورية تحفل بطوائف متعصبة، أؤكد لك أن الكراهية نيران مستعرة في مختلف الأصقاع، وتنهش أرواح البشر في كل مكان”.
السيرة الذاتية والقضايا السياسية:
تبلغ المقارنة ذروتها في النص المعنون (أن تكون منبوذاً)، حين يسأل الكاتب أغاثا: “هل شعرت بأي مشاعر نبذ وأنت تجولين هنا قبل عقود؟ ربما وجودك المؤقت كان يحميك من النبذ لأنك تملكين خيار العود، وهذا ترف لا يملكه اللاجئ”. ليشرع الكتاب من بعدها بين النص والآخر في التفكير، التأمل، الوصف، ومحاولات التعبير عن تجارب النزوح القسري، والهجرة، والعلاقة مع الثقافة الجديدة، والمشاعر النفسية والذهنية والإشكالات الفكرية التي ترافق اللاجئ، المنفي. وإن الكتابة عن التجربة الذاتية، أو الأسئلة الذاتية يجعل النص قادراً أن يستغرق في العميق والجديد في أسئلة المكان، الذاكرة، الهوية، الفرد والجماعة، والعديد من التأملات الدقيقة التي رافقت الكاتب في رحلته العالمية، والتي تعبر عديد الدول والمجتمعات، لتصبح هذه السيرة التي تدعي ألا أحد سيبقى، سيرة ذاتية لكل أحد سوري، تعبر عن أسئلته وتجاربه الوجودية والنفسية. كما أن الخصوصية الثقافية والسياسية لقضايا السوريين الكرد تكثف أسئلة الصدام/التفاعل، العزلة/الاندماج، اللغة والمكان التي يعالجها الكاتب بعناية.
السير في أماكن روائية:
يستغل الكاتب خصوصية السيرة الذاتية التي تسمح بمساحات واسعة من التأمل يصل بها (هيثم حسين) أن تميل إلى لغة المقالة أحياناً، إلى حدث الحكايات أحياناً، وإلى البوح الذاتي الشخصي أحياناً أخرى. يصبح النص موتيفات تداخل الحكاية الذاتية- حكاية عائلته التي تنتظره في تركيا، وحكايات النازحين والمغامرين على طرق الموت من رفاق الرحلة. يبرهن الكتاب ألا سيرة ذاتية مستقلة عن حكايات الآخرين، وأن السؤال المطروح من قبل الكاتب في البداية، تحمل سيرته الذاتية نفسها جوابه: “ما الذي نحاول تدوينه؟ هل نكتب ذواتنا أم حيوات الآخرين المضمرة في حكاياتنا؟”.
فالنص لا يلبث بين الفقرة والأخرى أن يفتح على نصوص أدبية أخرى، بالإضافة إلى يوميات أغاثا كريستي، يشرع الكاتب حين يصل إلى بريطانيا برحلة للمشي في المناطق المذكورة في رواية (مرتفعات ويذرنج، إميلي برونتي)، في مروج يوكشير وسط بريطانيا. ويقتفي آثار شخصيات روائية على أرض الواقع، ويتساءل: “هل هذا رضوخ لهيمنة الخيال الروائي في بحر من التخمين والتشكيك أم البحث عن الواقعية بعد اللذة الأدبية؟”، وهكذا، تمتلئ السيرة الذاتية بالتأملات حول الأدب، الكتابة، والكتب، ليفتح السرد الذاتي الخاص على أسئلة الأدب: “اعتقد أن الحاجة تشتد إلى كتب من النوع الذي تحدث عنه (فرانز كافكا): “ما يلزم من الكتب تلك التي تضربنا مثلما تضربنا أكثر الكوارث إيلاماً”.
الاعترافات الحميمية:
في السير الذاتية الأكثر مفصلية في تاريخ الأدب، يبلغ (جان جاك روسو) مساحات جديدة في الكتابة للتعبير عن تداخل المشاعر الجنسية والحسية بين المتعة والألم في الطفولة، ومن بعدها في خبرات الجسد المستمرة
في السير الذاتية الأكثر مفصلية في تاريخ الأدب، يبلغ (جان جاك روسو) مساحات جديدة في الكتابة للتعبير عن تداخل المشاعر الجنسية والحسية بين المتعة والألم في الطفولة، ومن بعدها في خبرات الجسد المستمرة. هذه السيرة الذاتية التي حملت عنوان (الاعترافات) اعتبرت عملاً رائداً في توصيف تعقيدات وتداخلات النشوة والألم في الذهن الإنساني. وقد حمل سيرة روسو مفهوم الاعتراف من هيمنته التعريف المسيحي إلى مساحات الإيروتيكية والجنسانية، ويكفي اليوم أن نلقي نظرة على عدد الأعمال والأفلام الإيروتيكية أو الإباحية التي تحمل اسم (اعترافات) لندرك القوة التي حملتها اعترافات روسو إلى القراء.
أن تروي بفكر الطفولة وتعابير المراهقة:
أما (أندريه جيد)، وهو الأديب والروائي، فقد توجه إلى السيرة الذاتية لشعوره بضرورة التنويع في الأنواع الأدبية لسرد الذات، وقد اكتشف معها قدرة أوسع للنص على التأمل، وبالتعاون مع القارئ، بما هو أكثر من النص الأدبي. بالإضافة، إلى أن ظهور التحليل النفسي فتح الأفق بأوسع مما كانت عليه احتمالات التحليل في فترة روسو. لكن (جان بول سارتر) هو الذي أعطى السيرة الذاتية بعدها الأدبي واللغوي الأوسع، وذلك في سيرته الذاتية بعنوان (الكلمات). إذاً، هي ليست سيرة، وليست اعترافات أو يوميات، إنها في الأصل كلمات. لذلك نجد أن سارتر كيّف أسلوب السرد ليلائم المرحلة العمرية التي يرويها في النص، فنصبح أمام نص مبني على أساس فكر طفل ولغة مراهق، إن الأسلوب الأدبي واللغوي يسعى للتعبير عن طريقة التفكير في المرحلة العمرية التي تعبر خلالها هذه السير الذاتية، وبذلك فتح سارتر الاحتمالات على مجال أكبر للصنعة الأدبية في مجال السير الذاتية، لا بل طرح سؤالاً لم يعد بالإمكان تجاوزه، كيف نروي الطفولة والمراهقة بفكر وطريقة تفكير ومنطق وقيم تلك المرحلة؟
إسهام السير الذاتية في الأدب:
لكن السؤال بقي مستمراً، هل السيرة الذاتية نوع أدبي؟ ومهما كانت النظرية النقدية التي نميل إليها، تبقى (البحث عن الزمن المفقود، مارسيل بروست) من أكثر أعمال السيرة الذاتية تأثيراً في تاريخ الأدب. لقد أدخلت هذه السيرة الذاتية على الأدب الفرنسي تقنيات المونولوج الداخلي، والتقطيع الزمني، وهي الانشغالات التي كان يقوم بها جيمس جويس وفرجينيا وولف في الأدب الإنجليزي. إنها بامتياز السيرة الذاتية التي أسهمت في تغيير تاريخ الأدب، وخصوصاً الفرنسي الذي كان يحتاج إلى تجارب السرد الذهني، ونظريات الزمن عند باشلار وآينشتاين.
السيرة الذاتية بين الشذرات والفوتوغراف:
ملخص تعريفي بسيط عن رولان بارت، بكونه أبرز منظري البنيوية و(السيميوطيقة)، وصاحب التقنيات الدقيقة في تأويل النصوص وتحليلها، من عناوين كتبه: “التحليل البنيوي للقصص”، “الكتابة في درجة الصفر”، يجعل من البعيد عن الذهن أن يلجأ إلى كتابة سيرته الذاتية قبل خمس سنوات من رحيله، لينشرها تحت عنوان (رولان بارت بقلم رولان بارت)، ويفتح الفضول حول كيف سيكتب منظر الكتابة النصية الأبرز سيرته الذاتية؟ فيبتكر بارت أسلوب الشذرات، ويوظف تقنيات غير نصية في سيرته، فيدمج صورة فوتوغرافية أو أكثر عن فترة ما ليستعيض بها عن النص، في حين أنه في قسم تالٍ من الكتاب، يبدأ الكتابة عن نفسه بصيغة الغائب، الـ “هو”.
يشرح بارت عملية التأليف، والنظام الذي خضعت له شذراته، فيكتب عن نفسه بصيغة الغائب: “لم يتذكر على وجه التقريب، النظام الذي كَتَبَ على نحوه هذي الشذرات: لكن من أين يأتي هذا النظام؟ بحسب أي ترتيب، وأي تسلسل؟ لم يعد يتذكر ذلك. فالنظام الأبجدي يمحو كل شيء، ويكبت كل أصل. ربما تبدو شذرات معينة في أنها تتسلسل في بعض المواضع، وطبقاً لوشائج، لكن المهم أن هذه الشبكات الصغيرة ليست موصولة بعضها ببعض، إذ إنها لا تصب في شبكة كبيرة، في وحدة ستكوّن بنية الكتاب ومعناه“.
محاولات المسرح في السيرة الذاتية:
من الصعب تخيل السيرة الذاتية في مجال الفن المسرحي، هذه هي الخصوصية التي حملتها مسرحيات الفرنسي (جان لاغارس)، وخصوصاً نصه بعنوان (نهاية العالم ليس إلا، 1990)، والتي كتبها قبل وفاته، يعلن فيها عن موته الوشيك، ويحكي عن آخر زيارة قام بها لعائلته قبل الموت بسبب مرض نقص المناعة المكتسبة. تكتب عنها المترجمة د.ماري إلياس: “تأتي المسرحية في مشاهد عديدة، هي عبارة عن لوحات مستقلة، والنص لا يخلق تراكماً درامياً. فالحدث واحد“، وتنبع شاعرية النص من التعارض بين لحظة الموت واستمرارية العجز في التواصل مع الآخرين: “يرحل الابن دون أن يقول شيئاً صريحاً عن وضعه، إنه يستمع بدلاً من أن يبوح، يشعر بعجز الآخرين وعجز العالم، وعجزه الشخصي عن مساندة من يحب، ويشعر بتفاهة المشاكل اليومية، النص يعبر عن التأرجح بين دور الكلام وعجزه”، هذا على مستوى الموضوع، أما من حيث أسلوب الكتابة، فتشرح د.ماري إلياس، بما يقرب هذه المسرحية إلى الخصائص الروائية والأدبية: “يشكل هذا النص استمراراً وإضافة لنصوص لاغارس السابقة، فكتبت بنفس التقنية السردية، حيث تتكلم الشخصية وتفكر بآن واحد، تخاطب ذاتها والآخر بأسلوب خاص من الناحية الأدبية“. لقد حمل (لاغارس) المسرح الإمكانات الحميمية في التعبير عن الذات، وهي الخصوصية التي تميز نوع السيرة الذاتية.
وهكذا، من حميميات (جان جاك روسو) إلى أسئلة (أندريه جيد)، والأسلوبية الأدبية لكل من (جان بول ساتر، ومارسيل بروست)، ومسرح (لاغارس)، نجد أن تجربة الكاتب (هيثم حسين) فتحت احتمالات السيرة الذاتية على حمل القضايا السياسية والاجتماعية السورية.
عن موقع تلفزيون سوريا