رواية إبرة الرعب لهيثم حسين تدقّ ناقوس الخطر!
موسى إبراهيم أبو رياش
ما أبشع أداة الخير التي لم تخلق إلا للخير عندما تتحول إلى أداة للشر، وما أتعس الناس عندما يُؤتونَ من مأمنهم. فعندما يتحول ملاك الرحمة إلى شاذ يشبع شهواته الدنسة مستغلاً مهنته، وتتحول الإبرة التي تمنح الراحة وتخفف من الآلام إلى أداة للشر والانتقام، فاعلم أن الفطرة الإنسانية قد تشوهت، وأن البشرية في انحطاط، وأن الفساد قد نخر حتى العظام.
في سرد مشوق ومثير، يأخذنا الروائي هيثم حسين لتقليب صفحات شخصية محورية نشأت في ظروف سيئة، وعملت في بيئة من الفساد والشرور، فأُشربت كل ذلك، وتمثلته خلقاً وسلوكاً، وأسبغت عليه من إبداعاتها الشريرة، فجرفها التيار الهادر، وانغمست في الشر والقذارة والفساد. وقد نجح هيثم حسين في الإمساك بتلابيب القارئ حتى السطر الأخير من خلال أحداث تتصاعد وتتسارع بقوة، فلا يملك القارئ إلا أن يستمر ليصل إلى النهاية التي جاءت غير متوقعة، مفتوحة على مصراعيها، مفجرة مزيداً من الأسئلة والتوقعات والاستنتاجات. ولسان حالنا يقول: ليته ما سكت!
نشأ رضوان في قرية مشوهة شريرة، في أسرة فقيرة مضطربة، وكان طالباً فاشلاً، وعندما التحق بالجيش للخدمة الإجبارية، جاء توزيعه مع مسؤول فاسد زرع في نفسه بذور الانحراف والشر ونماها، فأثمرت جريمة قتل لفتاة مسكينة قتلها تستراً على قذارته، واتخذ من معرفته بغرز الأبر الطبية وسيلة لإشباع شهواته الدنسة مستغلاً طهارة المهنة، وثقة المرضى وحاجتهم. وعندما عاد إلى قريته سنحت له الفرصة للانتقام من أهل القرية الذين آذوه بما أطلقوه من شائعات حول والده الصامت المنعزل بشأن غيابه الضبابي في لبنان، ونسجوا حوله القصص والحكايات والأساطير. استغل رضوان حاجة الناس لينتقم، ويشبع نزواته القذرة، وساعدته كثير من نساء القرية رغبة منهن في إشباع رغباتهن المكبوتة، فكانت الإبرة هي الستار الذي يخفي جرائمة ودنسه. وكانت نهايته في القرية عندما انكسرت الإبرة في ابن المختار، فهرب من القرية ولم يعد، بعد أن قدم رشوة للملا، حتى يحافظ على أمه وأخيه المريض. وفي المدينة توسعت خبرات الشر عنده، فتعرف على ضحايا جدد متنوعة لنزواته، ولم يتردد أن يساهم في تجارة الأعضاء البشرية، متجرداً من كل القيم الإنسانية. وعندما خرج على الخط، وتجاوز الخط الأحمر، معترفاً على بعض المسؤولين الفاسدين، طُلب منه أن يترك المدينة حفاظاً على حياته، بعد أن مكث في حجز المنسيين بضعة أيام، فغادر إلى دمشق، وهناك بحث عن صديق الخدمة العسكرية نضال الذي تحول إلى أنثى برغبته، وعمل معه/معها في الدفاع عن حق تغيير الجنس من خلال شبكة الإنترنت. ومن خلال الإنترنت الذي تعلمه من نضال يتعرف رضوان على عالم واسع جداً، يثري معلوماته وآفاقه وشهواته. وفي لحظة فارقة تنتهي الرواية تاركة رضوان في مهب الريح، يبحث عن مكان آخر وعمل آخر ومسرح آخر، وربما حياة أخرى!
من خلال توظيف تقنية تعدد الأصوات، وسرد مثير مشوق، خاضت الرواية في مجموعة من المجالات الإشكالية والمرعبة والصادمة أحياناً، من مثل: البيئة المشوهة وأثرها على الشخصية، حيث قرية الأشرار التي تنتشر فيها الشائعات، والشعوذة، وإدعاء المعرفة بالمعالجة وأسرارها. والفساد المستشري في كل مفاصل الدولة بقيادة المسؤولين أنفسهم المؤتمنين على الوطن. وبيع الأدوية الحكومية المخصصة للمعالجة المجانية، وتوزيعها على الصيدليات التجارية، فيحرم منها المريض، ويثري منها الفاسد. والرذيلة التي تتوفر لها بيئات كثيرة في ظل غياب الأخلاق والقيم. والانتقام والتشفي الذي مارسه رضوان بحق أبناء قريته. والحرمان الذي يسيطر على نساء القرية، فيجدن في رضوان مشبعاً لشهواتهن وإن بشكل نسبي. والاتجار بالبشر الذي يمارسه أطباء باعوا ضمائرهم وإنسانيتهم، مستغلين حاجة الأغنياء والمسؤولين وظروف الفقراء والمشردين. والحرب الأهلية اللبنانية التي أكلت الأخضر واليابس، فحولت لبنان إلى إقطاعيات تحكمها عصابات. والتحول الجنسي كتعبير عن التحرر والتوهم بتعديل نواميس الكون. وغيرها من الموضوعات المبثوثة في ثنايا الرواية من خلال ظروف ومشاكل وأوضاع شخصيات أخرى تتقاطع مع شخصية رضوان بحكم القرابة أو الصداقة أو الجيرة أو العمل.
وتهدف الرواية بالتأكيد لذكر نماذج وعينات فحسب من المخاطر التي تهدد المجتمع السوري في ظل استشراء الفساد والظلم والتسلط وغياب العدالة وضياع الحقوق، وإهمال البلاد والعباد. محذرة في الوقت نفسه من ازدياد وتيرة الفساد والتدهور في كل المجالات إن لم يعد المجتمع إلى إنسانيته، والحكومات إلى وظيفتها الأساسية، والأنظمة إلى رشدها.
يسجل للرواية غناها بالتفاصيل الدقيقة المدهشة الضرورية لرسم المشهد، وقدرتها على التغلغل في أعماق النفس البشرية، من خلال سبر أغوار عشرات الشخصيات التي حفلت بها الرواية، ورصد مشاعرها وخفاياها وتحولاتها وتناقضاتها، في معمار روائي متميز، ونسيج سردي متقن السبك، جميل العبارة، دون إطناب أو اجتزاء، فلا إخلال ولا إملال. وإن كان ثمة ملاحظة فإنه من الأجمل أن تتكأ الرواية على التلميح أكثر من التصريح، ففي التلميح إثارة للخيال، أبلغ من صريح المقال.
نجحت الرواية في دق ناقوس الخطر بقوة وعنف، وصرخت بأعلى صوت ممكن، أن هبوا قبل أن يأخذكم السيل إلى حتفكم، أو تذروكم الريح، أو يتخطفكم الطير، فتعضوا أصابعكم، ولات حين مندم. فهل من مستجيب؟!
وبعد، فإن ‘إبرة الرعب’ (منشورات ضفاف ـ بيروت، والاختلاف ـ الجزائر، ط1، 2013، 189صفحة)، رواية ناضجة بكل المقاييس، أثارت القلق والخوف والرعب، فحققت هدفها القريب. وهي بحاجة إلى مزيدٍ من الدراسات، تتناولها من جوانب مختلفة. كما نتطلع ـ كقراء- إلى مزيد من إبداع الروائي هيثم حسين، الذي رأينا جانباً منه في هذه الرواية، ونتوق إلى غيره.