المريض الإنجليزي.. رواية متجدّدة نابضة بالحياة تحطم صمت الصحراء
هيثم حسين
لا تتوقف تأثيرات الحروب بتوقفها، فهناك ندوب لا تندمل أبدا سواء في الأجساد أو في الأرواح أو في الأمكنة. وتتناقل الكثير من الحكايات بمختلف أبطالها جنودا ونساء وجنرالات وسياسيين وأطفالا وغيرهم، قصص الحروب وما تفتحه في النفوس من زراديب، ولكن أن تحكي الحرب، على عظمة تأثيرها وخرابها، من خلال ممرضة وجندي عابر للصحراء، فتلك طريقة أخرى تمكّن من خلالها الروائي الكندي مايكل أونداتجي من الغوص في تفاصيل الصحراء والذات القاحلة.
يحكي الروائي مايكل أونداتجي في روايته “المريض الإنجليزي”، قصة رجل محترق بالكامل له تاريخ غامض، وممرضته كندية مع لص ولغّام سيخي برتبة ملازم، ويطرح من خلالها عددا من القضايا المهمة التي تتعلق بالغربة والهجرة والمرض والحرب والسلم، بالتوازي مع الحب والكره وغير ذلك من المسائل التي تعد في جوهر العلاقات الإنسانية.
يختار أونداتجي في روايته، الصادرة عن منشورات دار روايات بالشارقة بترجمة أسامة إسبر وتحرير أحمد العلي، أربع شخصيات من عرقيات مختلفة هجرت وأبعدت عن أوطانها بسبب ويلات الحرب العالمية الثانية التي أفقدتها هويتها لينتهي بها الأمر في قاعدة بقرية توسكاني، لينفذ من خلالها إلى بواطن الأمور، وملتقطا مفارقات ونقائض تتناهبها على هامش رحلة الحياة والحرب.
البدو والحرب
يسرد الراوي كيف أن الممرضة هانا التي خطفت الحرب أحبّاءها، ترعى المريض الإنجليزي الذي يكون ضحية محترقة الجسد، مجهولة الهوية، وتثري عالم الرواية بالإضافة إلى كارفاجيو اللص والجاسوس والمدمن، وباتريك الجندي القتيل، زوج كلارا الهاربة من الحرب، وكاثرين زوجة كليفتون، وكيب وهو مهندس ألغام هندي، واللورد البريطاني سفولك..
يتنقل أونداتجي بين عالمين مختلفين، مركزا بشكل كبير على أحاديث الدواخل وتخيلات الشخصيات، فيعود إلى أجواء جنوب القاهرة بين سنوات 1930-1938، ليصور الصراع الجائر هناك، وكيف كان الجو الصحراوي القاسي مؤثرا على الشخصيات التي كانت تعيش مغامراتها هناك.
الرواية تتابع أربع شخصيات من عرقيات مختلفة هجرت وأبعدت عن أوطانها بسبب ويلات الحرب العالمية الثانية
الممرضة هانا تغسل جسد الجندي المحترق الأسود كل أربعة أيام، مبتدئة بقدميه المهشمتين، تبلل قطعة قماش وتضعها فوق كعبيه، وتعصر ماءها وتنظر إلى الأعلى حين يغمغم، فتلمح ابتسامته. تجد كيف أن الحروق فوق عظمي الساقين أشد سوءا. اعتنت به طوال أشهر، وتعرفت إلى جسده جيدا، حتى صارت تعتقد أنه ملاكها اليائس.
يحكي الراوي كيف أن الرجل يسرد في هدوء قصصا في الغرفة، تنزلق من فضاء إلى آخر كأنها صقر، ويستيقظ في التعريشة المرسومة حوله، تلك التي تحيطه بأزهارها المتناثرة، وأذرع أشجارها الضخمة، يتذكر النزهات، وامرأة قبلت جسده في أجزاء باتت محروقة الآن، لها لون الباذنجان.
يقول إنه ربما يكون أول شخص خرج حيا من آلية مشتعلة، وكان رأسه يحترق، وأمضى أسابيع في الصحراء، ناسيا أن ينظر إلى القمر، كما يمكن أن يمضي رجل متزوج الأيام ولا ينظر أبدا إلى وجه زوجته، ويلفت إلى أن تلك الذنوب لم تكن ذنوبا ناجمة عن اللامبالاة، بل أمارات انشغال.
يقول إن البدو الرحل عثروا على جسده وصنعوا له قاربا من عصي، وجروه عبر الصحراء، كانوا في بحر الرمال الأعظم، يعبرون بين فينة وأخرى مجاري أنهار جافة. وإنه حين سقط اشتعل حتى الرمل. شاهدوه يقف عاريا خارج الحريق، وكانت الخوذة الجلدية تحترق فوق رأسه. حزموه في مهد، في هيكل على شكل زورق، وتحركت الأقدام بصوت مكتوم راكضة به، يقول إنه حطم صمت الصحراء.
ينوه إلى تأثير الحروب على البدو وحياتهم، وكيف أنهم تعرفوا إلى الحرب بطريقة مختلفة، وأنهم عرفوا عن النار والطائرات التي تسقط من السماء منذ عام 1939، وباتوا يصنعون بعض أدواتهم وآنيتهم من معدن الطائرات الساقطة والدبابات المحطمة، وأنه حينئذ كان زمن حروب السماء، حتى أصبح بإمكانهم التعرف على أزيز طائرة مصابة، وشق طريقهم عبر الشظايا. ويتذكر أنه دائما ما كان على جسده إما مرهم وإما ظلمة.
يعود الراوي للحديث عن هانا التي تجلس وتقرأ كتابا تحت ضوء مرتعش، ترسل نظرها من حين إلى آخر إلى صالة الفيلا التي كانت مشفى حربيا، حيث عاشت مع ممرضات أخريات قبل أن ينقلن تدريجيا، وكانت الحرب تتجه شمالا، كما كانت على وشك الانتهاء. صارت الكتب منفذها الوحيد للخروج من زنزانتها. أصبحت نصف عالمها.
خرائط وخرائب
يحكي الراوي أنه حين حوصرت البلدة التي كانت الممرضة تمكث فيها مع المريض الإنجليزي، وتعرضت للقصف، أصرت هي ومريضها على البقاء في حين انتقلت الممرضات الأخريات والمرضى إلى مكان أكثر أمانا في الجنوب، كانا في ذلك الوقت يشعران ببرد شديد، ولم تكن هناك كهرباء، وفقد المكان ملامحه نتيجة الحرب والعبث.
يصور أنه أحيانا كانت تتناهى إلى سمع الرجل المحروق ليلا رجفة خفيفة في المنزل، وكان يدير جهازا في أذنه يقوي سمعه، فيلتقط ضجيجا صاخبا لا يستطيع تفسيره أو تحديد مصدره. وكانت هانا تلتقط الدفتر من المنضدة الصغيرة قرب فراشه، ذاك الدفتر الذي أحضره معه عبر النار، وكان نسخة من كتاب التواريخ لهيرودوت، وألصق فيه صفحات منتزعة من كتب أخرى، بحيث اجتمعت كلها داخل نص هيرودوت.
حكاية رجل يستطيع التعرف على بلدة غير مسماة من شكل هيكلها العظمي على خارطة والمعلومات داخله كالبحر
يقول المريض إن البدو أبقوه على قيد الحياة لسبب ما، وإنه كان مفيدا. افترض أحدهم أنه يمتلك مهارة ما حين تحطمت طائرته في الصحراء. ويصف نفسه بأنه رجل يستطيع التعرف على بلدة غير مسماة من شكل هيكلها العظمي على خارطة، وأنه امتلك دوما معلومات كالبحر في داخله.
يصف نفسه بأنه شخص إذا تُرك وحيدا في منزل أحدهم يتجه إلى المكتبة، يخرج مجلدا ويستنشقه، وأن التاريخ هكذا يدخل إلينا. كان يعرف خرائط قاع البحر، تلك التي ترصد نقاط الضعف في درع الأرض، والخرائط المرسومة على قطع جلدية لدروب الصليبيين العديدة، وهكذا كان يعرف مكانهم قبل أن تتحطم طائرته بينهم، ويتحول بدوره إلى متاهة من الخرائب المتحركة بروحه.
كما يشير إلى أنه من السهل فقدان حس الاتجاه في الصحراء، وأنه حين سقط من الجو، وتحطمت طائرته في الصحراء، في تلك الأحواض الصفراء، كان كل ما فكر فيه هو أن يصنع معدية، ويحكي عن تشوشه، وأنه حين تاه بين البدو غير عارف أين هو، كان كل ما يحتاج إليه هو اسم أي مرتفع صغير، أو عادة محلية أو خلية من ذاك الحيوان التاريخي المتخيل لديه، لتعود خارطة العالم إلى مكانها في ذهنه.
يؤكد الراوي أن هناك مخاطر جمة وآثارا خطيرة يستمر تأثيرها حتى بعد انتهاء الحروب وهمود أزيز الرصاص ودوي المدافع في المعارك، وأن أخطر أنواع القنابل هي التي ترمى من ارتفاعات منخفضة، والتي لا تعمل إلا بعد أن تهبط، حيث تدفن تلك القنابل غير المتفجرة نفسها في المدن والحقول وتبقى هاجعة إلى أن تزعج موصلات الرعاش بعصا مزارع أو لكزة عجلة سيارة أو ضربة كرة تنس على الغلاف، ثم تنفجر.
يتخيل الراوي هانا وهي تتحرك وسط رفقة ليست من اختيارها، وكيف أنها لم تعثر على رفقتها الحقيقية، على الأصدقاء الذين تريدهم، وأنها امرأة شرف وذكاء، وحبها الوحشي لا يركن إلى الحظ، بل يجازف دائما، ثمة فوق حاجبها علامة تستطيع هي فقط أن تتعرف عليها في المرآة.
وجدير بالذكر أن مايكل أونداتجي وُلد في سيريلانكا 1943، هاجر إلى إنجلترا عام 1954 واستقرّ في كندا 1962، نشر العديد من المؤلّفات، أشهرها روايته “المريض الإنجليزيّ” التي حازت جائزة البوكر 1992، وتحوّلت إلى فيلم سينمائيّ.
عن صحيفة العرب اللندنية