الشعبويّة في عالم الأضواء الزائفة
هيثم حسين
هل حقّاً إنّه زمن القادة الشعبويّين، زمن الأدباء الشعبويّين، زمن الشعارات الشعبويّة، ومحطّة التغطية على الهزائم بالضجيج المفتعل وإلقاء الاتّهامات على الآخرين، وجعلهم ذريعة لتبرير الخسائر التاريخية، أو الراهنة، بحيث يكون القناع أداة للإقناع، والتشهير في الوقت نفسه. هل أصبحت الشعبويّة ملحَ العالم الافتراضيّ، والواقعيّ؟ وهل هي أفضل طريقة لتحصيل مكتسبات سريعة؛ عبر اللايكات والتعليقات؟ كثيرة هي الأسئلة التي يثيرها هذا المصطلح.
يبحث الشعبويّ عمّا يضمن له الاستمرار في موقعه، ويتّخذ الآخرين دريئة من أجل حماية مصالحه، أو تعزيزها، متاجراً بهم وبالشعارات التي تلهيهم وتعميهم وتبقيهم مشتّتين تائهين خلف أسوار التجهيل وتحوير الحقائق والتعتيم على نقاط يمكن أن تكشف الأسرار المخبوءة التي من شأنها فضح مزاعمهم وتعرية ادّعاءاتهم.
في ظلّ الشعبويّة، ولدى الشعبويّين، ليس هناك ما هو أسهل من إطلاق الأحكام المطلقة، والتجرّؤ على الأعراض، من دون أيّ إحساس بالمسؤولية.. والشعبويّة الرخيصة -وكلّ شعبويّة رخيصة بالضرورة ولكن بنسب متفاوتة- سلاح المفلسين من عشّاق الأضواء الزائفة العامية، وهي تعكس صورهم التي يحاولون التعتيم عليها وترقيعها في مرآة مخادعة.
وباء أم ترياق
يكمن ديدن الشعبويّين في توجيه الاهتمامات، وصبّها على أفكار وشعارات ونقاط بعيدة عن الحقائق والوقائع، وتضخيم تفاصيل صغيرة لتهميش الصورة الكاملة، أو التي تبدي الحقائق بوضوح، لأنّها تخدم الزيف الذي يتمّ الاختباء خلفه.
لا تحتاج الشعبويّة إلى تأمّل أو تفكير، بل هي تعطّل التأمّل لدى من تستهدفهم وتوقف التفكير لصالح فرض الوصاية لتمرير غايات وأهداف بعينها، وهي غالباً ما تدور في فلك التحايل والالتفاف على حقائق التاريخ ووقائع الراهن.
في لعبة إلقاء الأقوال غير المنضبطة التي تناغي المشاعر المتطرّفة، أو تغذّي الأحقاد الدفينة وتقوم بتظهيرها لتشكّل محطّات للتملّص من المسؤوليات الأخلاقية، بعيداً عن أي التزام من أيّ نوع، يقوم الشعبويّ بتضخيم نقطة يمكن أن تكون إشكالية، أو تساهم بالترويج له من جهة اعتباره نفسه الحامي للمصالح العليا، والحائز على ثقة جماهيره، والحريص على التشبّث بها، في الوقت الذي تكون متاجرته بكلّ شيء من أجل تعزيز مكانته وتدعيم حضوره، والتغطية على ما يمكن أن يشكّك به قولاً أو فعلاً، وتفنيده
بطريقة دعائية بعيدة عن المنطق والموضوعية.
الشعبويّة أقرب إلى الوباء في حين يصوّرها المتاجرون بها على أنّها بمثابة ترياق، وذلك لأنّها تحمي ما يفترضون أنّه يمثّل جدران حماية بالنسبة إليهم، يحميهم من الخارج، ويبقي صورتهم المتخيّلة بعيدة عن المتناول، أو أنّها تساهم بإنقاذ هويّتهم الموهومة، وذلك كلّه من غير تحديدها باسمها، وفي مسعى دؤوب للابتعاد عمّا من شأنه أن يكشف عريهم ومتاجرتهم وتلاعبهم بعقول مَن يعتبرونهم غوغاء يسهل قيادهم، أو من ينساقون وراء الإيهام والتضليل بعمى قاتل وسعادة خلّبية.
الشعبويّون يكرسون أفكارا وشعارات بعيدة عن الحقائق والوقائع عبر تضخيم تفاصيل صغيرة لتهميش الصورة الكاملة
وتوصف الشعبويّة بالوباء لأنّها تنخر بنية المجتمعات نفسها، أو تلعب دوراً في تسعير الأحقاد بين مجتمع أو شعب وآخر، بناء على اتّهامات وتلفيقات تخدم الشعبويّ وتيسّر له السبيل لتحقيق أهدافه بالسيطرة والتفتيت، من دون اكتراث بالمسؤولية التاريخية، وبعيداً عن الاستماع لصوت العقل، والتعالي على الضغائن أو تخفيف حدّتها بوضعها في سياقها من دون تجيير أو مبالغة أو تضخيم.
تتأجّج الشعبويّة في المعارك الانتخابية غالباً، حيث يلجأ بعض المرشّحين إلى النيل من خصومهم عبر كيل اتّهامات مختلقة بحقّهم، ومناغاة غرائز الجماهير الباحثة عن
الضجيج المفتعل، حيث تجد ضالتها في الشخص الذي يشعر بالانتماء إلى هذه الفئة التي يحاول توسيع رقعة انتشارها وتأثيرها في المجتمع، بحيث يقسّم الناس إلى مريدي الشعبويّة وضحاياها.
التصنيف الحدّيّ يكون منجاة للشعبويّين، حيث يجدون أنفسهم في مواجهة فرض قيود واضحة على المصنّفين في خانة الأتباع أو الأعداء، ويكون لكلّ خانة تعامل خاصّ بها ومعها، فالأتباع يكونون مصنّفين في العتمة وتحت السيطرة، توضع عصابة على أعينهم، وتتمّ دغدغة مشاعرهم البدائية المعزّزة للعدوانية والمحرّضة على التفاخر والتباهي والنرجسيّة، في حين أن القيود المعادية والاتهامات تُلقى على الآخرين المصنّفين في إطار الأعداء.
درب للاستبداد
يحرص الشعبويّ على تعزيز فكرة أنّ الآخرين هم الجحيم، وأنّ النعيم الموهوم يكون بعيداً عنهم، لذلك لا بدّ من رفع الأسوار في وجههم، والاشتغال على تسييد الأفكار والقيود التي تكون أدواته للهيمنة، ليرسم معالم فردوس على مقاسه له ولأشباهه.
الأضواء الزائفة تكون حقيقية للشعبويّ، وعامية لأتباعه ممّن يتوهّمون أنّهم بصدد بناء عالمهم المنعزل البعيد عن الآخرين، الذي يلغي التنوّع ويرتكن لسطوة اللون الواحد، بحيث تتحوّل الحياة إلى جانب يتيم، يلغي جمالية التنوّع وبهجة الألوان المتعدّدة وخصوصيّتها وفرادتها وتمايزها.
الشعبويّ يمضي في طريقه ليكون مستبدّاً، تكون شعبويّته خير سلاح لتكريس استبداده، وذلك كلّه بذريعة الحماية، ومن منطلق الوصاية البائسة التي تجد في الجميع قصّراً لم يبلغوا الرشد، ولن يبلغوه، لأنّ هناك من ينهض بالمسؤوليات كلّها ويتحمّل مشقّات الأعباء التي تثقل كاهله، ليبقيهم في عالم الوهم، راسماً لنفسه صورة المضحّي ضمناً.
والأنظمة الشمولية شعبوية بالضرورة، لأنّ الشعبوية خير أداة للدكتاتوريين لتبرير مساعيهم لإبقاء بلدانهم مغلقة بعيدة عن أيّة تأثيرات أخرى، وكلّ آخر يستبطن العدّو من وجهة نظرهم، لذلك من الخير لهم الابتعاد عن مصادر الخطر ومظانّ الشرور المحتملة.
كيف تتمّ مواجهة الشعوبيّين؟ هل يمكن مجادلتهم بالعقل والمنطق؟ إلى أيّ حدّ هناك أمل بتغيير وجهات نظرهم أو الحدّ من عدوانيتهم تجاه الآخرين؟ كيف يمكن التعاطي مع هؤلاء الذين يحاولون التفشّي بين ثنايا المجتمعات بذرائع مختلفة مختلقة؟ هل نخوض معاركنا السلميّة لنتحدّى جنونهم أم نذعن لاجتياحهم ونرضى به؟
لا يوصف الأمر بأنّه “نهر الجنون” وأنّه لا مناصّ من شرب ماء النهر، والاكتواء بالجنون، لأنّ تعديم الخيارات يعني إعدامَ الحياة نفسها، ويلغي أيّ أمل بالتغيير المنشود في المستقبل، ويمنح مفاتيح السيطرة للشعبويّين كي يستبدّوا كيفما شاؤوا، ويكرّسوا مفاهيمهم لعالم يحرصون على تحويله إلى “مزرعة الحيوانات” أو إلى سجن كبير لا حرّية أو قرار فيه لأحد من نزلائه.
ولا يتعلّق بوضع إطار محدّد مقيّد ولا أيّ تعريف مدرسيّ يهيّئ لشرعنة البؤس، بل تراه أقرب إلى مواجهة مفتوحة عبر التاريخ، وخلال الحاضر وما يحمله المستقبل في طياته، لأنّ هذا النسق من التفكير يكتسب تجدّده وحضوره كلّ مرّة مكتسياً شكلاً مختلفاً، ولاعباً في مناطق ظلامية.
لا رهان إلّا على العقل والعلم لمواجهة الشعبويّة وتعرية مزاعم الشعبويّين وادّعاءاتهم، بحيث تكون الحجّة كاشفة للخلل الذي يعتري تفكيرهم وشعاراتهم، من دون التورّط في المجابهة بالأسلوب نفسه، لأنّ الانزلاق إلى الساحة التي يريدها الشعبويّ، والتي يتميّز فيها بطريقته، يعني التماهي معه، وإعطاءه الأفضلية لتوسيع تأثيره ونفوذه.