إبرة الرعب لهيثم حسين: مسوخ الكراهية المتناسلة
جينا سلطان
يتسقط الكاتب السوري الكردي هيثم حسين في روايته “ابرة الرعب”، الإيروسية من منابعها السفلى، ممتطيا الموجة الحسية السائدة، في تقصٍّ مدهش ومبتكر لشخصية المسخ، معتمدا بناء صيرورته الروائية على ارتهان الإنسان لعبودية النشوة المفقودة، التي تعيد صياغته وتدفعه نحو مسارات غير متوقعة، تكرر طرح السؤال المعتاد: الى اين يمكن النشوة ان تقود الانسان؟!
تدور لحمة الرواية في قرية كردية منسية، يدمن أهلها تقصي أسرار بعضهم البعض. لذا يتلبس البطل رضوان هيئة ممرض منحرف، كي يسرد تفاصيل الذاكرة المؤثثة على الحقد وتناسل الكراهية. فهو ابن موسو الذي يهرب من الجوع إبان جفاف السبعينات، ويلتحق بالميليشيات المسلحة في لبنان كجندي مرتزق. ثم يعود عقب الاجتياح الاسرائيلي الى بيروت، مبتور الأصابع، مصلوم الأذن، صامتا صمتا حجرياً، فيغدو بطل القصص المرعبة، التي يتمازج فيها عنف الحرب ووحشيتها بشبق الحيوات المنفلتة من عقالها. لكن الحقيقة تظل لغزا يتضخم في أذهان القرويين البسطاء، كتعويض عاطفي لتاريخ الحرمان والجهل والتهميش، لا يخلو من شجاعة امرأة تتحدى قوانين الرجال الذكورية، لتعرض ابنتها القبيحة خجو على ابن اخيها موسو، فينطوي سرّ فوق آخر، وتلتهب سعادة الحواس، وينمو امتنان متواطئ بين الكائنين المشوّهين بالخوف والرعب، فتكمل الحياة نصب شباكها الماكرة، وينتكس الابن البكر كاوا. بينما يساق المتبطل الكسول رضوان الى الخدمة العسكرية الإلزامية في ريف العاصمة، حيث يدلف الى عوالم مختلفة، تشكل امتدادا لبيئة التخلف والفساد والانحلال الأخلاقي في قريته.
بذريعة الفقر والحاجة يداهن رفاقه في الخدمة كسبا لتعاطفهم وثقتهم، مما يفتح أمامه الأبواب المغلقة، فيمتطي الموجة مثل كل مرتزق متيقظ، مؤمّنا رزقه وتدابير ملذاته حيثما وكيفما عرضت. ابتداء بالشاذ المدلل نضال الشامي، انتهاء بجولا المجنونة السائبة، ومرورا بالمؤخرات العارية للمرضى، التي تولّع بها وأدمنها بحواسه حتى اختصرت عالمه بأسره.
مثلما كان موسو مكتشف لذة خجو، يفجّر رضوان براكين الشهوة عند المجنونة، فلا تتمكن من السيطرة على انفعالاتها، فتقع في فخ الشهوة، وتُقتل بسببها عندما ينتفخ بطنها. ومع أنها كانت عذراء إلا أن الكل يتفق على النيل منها واظهارها خائنة للشرف في القصص المتكهنة بماضيها الغامض. اما رضوان فلا يحاول ان يتدخل في لغز ظهورها ولا في لغز اختفائها، بل يكتفي بقتلها زاعما لنفسه الشفقة عليها وعلى الوليد الذي يمكن ان يأتي الى هذا العالم. كأنها مجرد استطالة لظل ابنة خالته روناك وعبث المراهقة في القرية المنسية.
يتساءل الكاتب بمكر عن ماهية القوة التي يحتاجها المرء ليتحصن من خبث نوازعه الداخلية، ومن اوهام قد تجملها له الغريزة، او يضفي عليها الضعف طابعا تبريريا ما. فرضوان الذي لم يكمل تعليمه المتوسط، كان مقتنعا تماما بحجته، التي تسوغ له الانتقام من أهل قريته، عبر الإبر المقرونة باختبارات الحساسية. وهي خبرة يكتسبها من مكان خدمته كحارس في المستوصف العسكري، حيث يتعلم بالمراقبة فقط، ثم تسنح له الفرصة للتجريب عند قدوم ريفي من القرية المجاورة للمستوصف بصحبة طفلته الصغيرة.
هذا الاقتحام لعالم التمريض، يمنحه المؤهلات الكافية لاستباحة مؤخرات الريفيين، بعد تغذيتهم بالذاكرة الملفقة والمدعمة بالأدوية المسروقة، التي كان يحضرها لهم أثناء الاجازات. وبعد ان يستكشف عورات القرويين ويفضح خباياهم، يصبح بطل قصصهم. لكن النشوة القصوى تأتيه حين ينتهك مؤخرة حائك القصص الشهير كريزو، أو من يمكن تسميته الإرث الشعبي للقرية ومخزونها السمعي المتجدد، الذي يلفق سيرة موسو ويُسيل لعاب القرويين بتناوب الرعب والاثارة فيها، مما يجعل رضوان في النهاية معادلا لبطل الظل كريزو، ومحققا فعليا لعالمه المنحرف! يعزو الروائي هذا التواطؤ بين القاص ورعيته والمسمى بالهوس المرضي بنبش خصوصيات الآخرين واختراقها، إلى خوف البسطاء المهمشين من الموت، في اعتراف صريح بالتهرب من مواجهة الذات ونهاياتها الحدية، لذا يظل المعنى الوجودي للكائن الهامشي مرتهنا بقصص الآخرين.
يتنقل رضوان بين مجالات حيوية تستبطن معاينة الرعب من التورط في تجارة الأعضاء البشرية إلى السجن، قبل أن ينتهي به المطاف في العاصمة، حيث يلتقي نضال مجددا ولكن في حلة مختلفة. فعملية التبديل الجنسي تنجح في إعادة التوازن إلى نفس الشاب المترف، وتحوله من ذكر رقيق المشاعر، مرهف الاحاسيس، مؤنث السلوك، إلى انثى، متبلدة الاحاسيس، مسترجلة السلوكيات. المفارقة أنه يغدو أكثر تعصبا لانتزاع الاعتراف الجمعي به كأنثى. في المقابل تهدأ نزعة الانتقام في نفس رضوان بعد حياة المساكنة العلنية مع نضال، مع ما تستجرها من عداوة الوسط المحيط. وينصرف إلى مجاراة العالم الافتراضي، الذي يخفف عنه وطأة الماضي، أو غابة الرعب كما يجنح لتسميته في مواضع من الرواية.
في دهاليز الانترنت وأحابيله تبدأ محاولات رضوان لتأبين الذاكرة، كي يكون دائم التوجه الى المستقبل والتصويب على الاهداف المنشودة فيه، بدلا من العيش في الماضي الذي يلاحقه كوصمة عار وغابة من الرعب والفوضى. ثم يتحول تدريجاً ليصبح كائنا افتراضيا يصادق الناس من خلال أكاذيبهم وخيالاتهم المشوهة عن ذواتهم المريضة. وأخيرا يتوقف ليسائل نفسه عن انهياراته، قبل أن يواصل سيره في درب التحول اللانهائي، على أمل العثور على ذاته في مرآة العالم المتحول.
يخرج هيثم حسين بذكاء من تحت عباءة مواطنه سليم بركات وقيود الجغرافيا الدامية، وينجز رؤيته الخاصة عن أعباء العالم الهامشي وارتهانه لأشكال الرعب، وما يرتبط بها من احقاد وضغائن. لكنه في تسارعه، يغفل مهارة إدارة الرواية، ويثقلها بمحاولات الشرح والاستطرادات الكثيرة، التي تفقدها الترابط والانسجام.
عن صحيفة النهار اللبنانية