أيقونة الشرق المهمشة
هيثم حسين
هذه المرّة الجريمة مختلفة، أكبر من كلّ الجرائم التي اقترفت بحقّ هذه المدينة وأهلها وتاريخها وعراقتها. الجريمة مكتملة الأركان، والمجرمون يتبادلون توزيع الأدوار والاتّهامات فيما بينهم.
لكلّ مَن مرّ في بيروت، أو سكنها، نصيب تاريخيّ وافر منها، ولها في الذواكر والأفئدة أكبر نصيب، ويكبر مع تقادم الأيّام، من دون أن يتمكّن النسيان من التأثير عليه، لأنّها تحفر بحضورها الساحر وشوماً في الأرواح تؤبّد بها ومعها مكانتها الأثيرة التي تنافس مكانة المنزل الأوّل بحميميّتها وجمالها.
صور مروّعة، مريعة، الخراب في كلّ مكان، الدمار بات المشهد الأبرز في شوارع وأمكنة مألوفة، كان الجمال يميّزها، ويضفي عليها فرادة خاصّة، لكنّ ما تنقله اللقطات من مشاهد، وما يملأ فضاءات وسائل التواصل الاجتماعي من تفاصيل، مختلف، قاهر، محبط، ومثير للغضب والجنون معاً.
هذه المرّة أيضاً ستنهض بيروت من تحت الركام، ستضمّد جراحها رويداً رويداً، ولكن لن يكون بعدها كما قبلها، ستختار المدينة لنفسها مساراً مختلفاً، ومصيراً بعيداً عن عبث العابثين واستهتار الفاسدين والمجرمين، ستتخفّف ممّا يثقل كاهلها من أعباء المستغلّين وترسم لبنائها درب الخلاص وتلعن الحاقدين والآثمين.
ما الذي اقترفته بيروت؛ ملاذ الأحرار وموئل المناضلين، حتّى تعاني ما تعانيه من ويلات؟ إلى أيّ حدّ بلغ الحقد بمَن يتربّص بها ليشعل فيها هذه النيران ويدمّرها بهذا الشكل الكارثيّ؟ كيف لمدينة بجمال بيروت أن توضع في هذا النفق المظلم وتُدفع إلى الغرق في جمر الأحقاد والكراهيات والانتقامات المتناسلة التي لا تستدلّ إلى نقطة للنهاية؟
جريمة بيروت أنّها تعشق حرّيتها، وتهمتها أنّها مدينة الحضارة والتاريخ، لذلك لا يهدأ بال للحاقدين والعنصريين والمجرمين حتّى يحوّلوها إلى نسخة سوداء من دواخلهم المشوّهة، وصورة من خربة من صور العنصرية والجنون، لكن هيهات ذلك، وهيهات لمن لا يقدّر تاريخها وقيمتها كأيقونة الشرق ودرّته الحضاريّة أن يمتلك زمام أمرها ومفاتيح مستقبلها.
الكارثة التي حلّت ببيروت تفوق الوصف، وتُعجز التعبير، لكنّ الأمل الذي تضخّه بيروت تاريخيّاً في قلوب عشّاقها يثير شيئاً من التفاؤل بأنّها ستتمكّن من تخطّي هذه المحنة كما تخطّت محناً سابقة قبلها، وإن كانت أقلّ تدميراً من هذه المرّة الفاصلة المأسوية.
بيروت مدينة منكوبة؟ يا لهذا الخبر المفجع، بيروت التي ظلّت تكابر على جراحها، والتي كانت تعالج نكبات الآخرين الذين يقصدونها ويلجؤون إليها، باتت منكوبة بالمعنى الحرفيّ للكلمة، لا الاستعاريّ أو المجازيّ، وما لم تفعله سنوات الحرب فعله ركام الأحقاد بها.
سيقال الكثير والكثير عمّا حصل، ستخرج تحليلات كثيرة، وحكايات أكثر، سيتمّ تبادل الأدوار والاتّهامات، والبحث عن الجناة الذين يعرفهم أبناء بيروت حقّ المعرفة، وسيكون هناك بحث في التفاصيل وغرق في التشعّبات والدهاليز، لكن ما هو مؤكّد أنّ بيروت اليوم تمضي إلى مصيرها مكتسية أثواب الحداد على جزء ساحر من تاريخها وحاضرها، متسلّحة بقوّة الحضارة في مواجهة الهمجية والعدوان.
كيف يمكن الحديث عن بيروت من دون أن يكون العشق دليلك إليها، ومن دون أن يقودك الشوق إلى معالمها، من الأمكنة والأشخاص الذين تعرفهم معرفة شخصيّة، أو أولئك الذين قرأت لهم واقتربت منهم عبر أعمالهم ومؤلّفاتهم وكتاباتهم، وأصبحوا بمثابة أصدقاء أعزّاء تسأل عنهم بشكل دائم..
لكلّ منّا في بيروت بيروته الخاصّة به، بيروت مدينة المدن، كبيرة إلى حدّ يفوق التصوّر في قلوب عشّاقها، وينطبق عليها أكثر من غيرها بأنّها حاضنة الغرباء، ومَن يشرب من مائها لا بدّ أن يعود إليها، فهي كالمكان الأوّل تحجز لنفسها مكانة معتبرة لا تضاهى.
قدر بيروت أوقعها فريسة تناقضات هذا العالم البائس، وضحية الكراهيات المتجدّدة التي تتغذّى على الدماء والأوهام المؤسطرة.. ولكنّ من المؤكّد أنّ واقعها ومستقبلها سيكتبان بيد أبنائها الأوفياء لها، أولئك الذين سيحمون ذاكرتها ويشقّون سبلهم بها ومعها إلى برّ أمان يليق بها وبهم.
لازمتني صور الكارثة وأكأبتني بشكل قاهر، أدقّق فيها وأقارن بينها وبين أماكن أعرفها في بيروت فلا أرى شبهاً، كأنّي أشاهد فيلماً سينمائيّاً عن نهاية العالم، وفي قرارتي أرجو أن تكون نهاية هذا الفيلم قريبة، وأن ينتهي شبح الكابوس المدمّر مع انتهائه، لكن الواقع أقسى وأكثر وحشية، لأنّ الدمار في كلّ مكان، والكارثة حقيقيّة وليست متخيّلة.
بيروت العظيمة.. ليس بإمكان العاشق منكسر الفؤاد سوى الأمنيات، وليس بيد المنفيّ الغريب سوى الذكريات.. ولكن يقيناً ستتجاوزين هذه المحنة التي ستبقى علامة فارقة في تاريخك، من دون أن تفقدي سحرك وعظمتك وستظلّين مصدر الجمال في شرقنا الموحش البائس.
لا أشكّ أن بيروت تصنع المعجزات وتحقّق المستحيلات، وأنّها تظلّ طائر الفينيق الذي ينهض من تحت الرماد أكثر صموداً وعزماً كلّ مرّة.