الكتابة موقف حياتي وتاريخي

هيثم حسين

في زمن السلم أو في زمن الحرب، يمارس الروائيّ ما يدأب عليه من فعل الكتابة، يقدّم شهادته على زمنه، ينخرط في قضايا مجتمعه، يكون فاعلًا في عالمه ومحيطه من خلال روايته التي تكون سلاحه لمواجهة الواقع بما يعترك فيه من متغيّرات، لذلك ففي الحرب، يكون فعل الكتابة مواجهة متجدّدة، محاربة بالقلم، وسير ضدّ تيّار العنف والجنون والإجرام، عبر تعرية الممارسات التي من شأنها تشويه المجتمعات، وبثّ الضغائن بين أبنائها الذين يقعون فرائس في لعبة كبرى لا تستثني أحدًا من فتكها وتشويهها.

لا أودّ أن أكون متشائمًا، أو أجرّد فعل الكتابة من أيّ قدرة على التغيير المنشود، لأنّ الكتابة لا تغيّر تغييرًا مباشرًا، لا تملك قوّة لفرض أيّ تغيير، بل تمهّد للتغيير الذي تصوّره أو تتأمّله، وذلك انطلاقًا من رؤية الروائي وتصوّره لواقعه ومستقبل بلاده، بعيدًا عن ركام الأحقاد والثارات التي تنهش بنية المجتمع في هذه الأوقات المأساوية.

واقع الحال لا يتغيّر والنيران مستعرة، والجبهات مستعرة، ولا أحد يلتفت لقولٍ أو كلمة مكتوبة، ولا لرواية مهما بلغت من العبقرية والعظمة، لأنّ صدى الكلمة يضيع بين دويّ المدافع وأزيز الرصاص ونداءات الانتقام، لذا لا بدّ من التحلّي بالصبر والكتابة على الرغم من الجعجعة التي يثيرها المتحاربون، وعدم الارتكان إلى اليأس القائل: لا مكان للكلمة في عالم مضطرب مجنون يتحاور بالبنادق.

استحضرت ممهّدات الثورة في أكثر من عمل لي، ففي «إبرة الرعب» مثلًا، تحدّثت عن الفساد الذي ينخر بنية مؤسسات الدولة، ومن ضمنها الجيش، وتناولت جانبًا من تفاقم ظاهرة التطرّف وكيف كان الإرهاب يبني أعشاشًا له ويضرب بجذوره الفكريّة في بقع معتمة في البلاد، وذلك تحت سمع السلطات الأمنية ونظرها، بل بإدارة منها، كمن يربّي ذئبًا في حجره ليهدّد به الآخرين.

وفي روايتي «عشبة ضارّة في الفردوس» تناولت بدايات الثورة، وكيف بدأت التظاهرات في المدن الكردية في سورية، وكيف واظب النظام على سلوكه الأمني، وعمل على تفتيت الناس بطريقته المعهودة، وبدأ باصطياد مَن يرى فيهم تهديدًا له بطريقة انتقائية، ومن خلال عملاء له، من دون أن يوغل في الدم الكرديّ كي يبقي الثورة مقيّدة ومحصورة في إطار طائفيّ، ويسوّغ بذلك حربه على البلاد والعباد، وتدميره الإجرامي للمدن التي ثارت ضدّه كلها لاحقًا.

أمّا في سيرتي الروائيّة «قد لا يبقى أحد» تحدّثت عن جانب من تداعيات الكارثة الكبرى التي حلّت بنا، وكيف أصبح جزء كبير منّا –نحن السوريين- كالأيتام على موائد اللئام، وذلك في أثناء بحثنا عن ملاذات آمنة لنا ولأبنائنا.

كلّ كتاب كتبته، سواء رواية أم نقدًا، هو تعبير عن موقف حياتي وتاريخي بالنسبة إلي، هو شهادتي على واقعي الذي لا أنظر إليه كلوحة سوداء فقط، لأنّ حصره بهذه الزاوية إلغاء لألوان الحياة وجمالياتها المختلفة التي تصنع إنسانيتنا وتجمّل حيواتنا وتلوّن أيّامنا وترسم الدروب المختلفة لمصائرنا.

احتفيت بالحياة والحبّ والجمال، بالموازاة مع القضايا التي تناولتها، سواء الهوية أم الاغتراب أم الفساد أم العلل النفسية والاجتماعية.. إلخ تلك الموضوعات والمحاور التي اشتغلت عليها، كي أساهم بقسطي وأؤكّد بدوري أنّ الطاغية لم يتمكّن من تجريدنا من إنسانيتنا وتحويلنا إلى وحوش على شاكلته.

بالكتابة أعمل على تأكيد فكرة أنّ الطاغية مؤقت؛ على الرغم ممّا خلّفه من جرائم ستحتاج إلى زمن طويل لترميم تداعياتها المفجعة.

أحيانًا أشبّه الطغاة والمستبدّين بالضفدعة التي بصق عليها أحدهم فضحكت مقهقهة وهي تقول: “ماء البحر لم يبلّل وجهي فهل يمكن لبصقتك أن تبلّله..”، وهذه حكاية كردية متداولة عمّن فقد الحياء والخجل، وبات يتباهى بقذاراته، أو لا يكترث بأيّ شكل من الأشكال لما يقوله الآخرون عنه. الطغاة يمارسون طغيانهم بعيدًا عمّا نقوم به من تعرّية لهم وفضح لسلوكاتهم وممارساتهم، وإذا تمكّنوا من الوصول إلى أحدنا فإنهم يحاولون جعله عبرة للآخرين.

* مشاركة في تحقيق عن “الرواية السورية عندما تواجه الاستبداد والطغيان” في موقع حرمون.

© Copyright 2020. All Rights Reserved