هيثم حسين: الشخصية الروائية جمرة في قلب كاتبها

هيفاء بيطار

نادرا ما تكون الكتب النقدية مغرية وجذابة لقراءتها مثل قراءة الرواية، لكننا عندما نقرأ كتاب “الشخصية الروائية”، للكاتب السوري هيثم حسين والصادر عن دار نون للنشر، نقبل عليه دفعة واحدة، كما لو أنه جرعة عالية من الإبداع الفكري والأدبي، فلا نستطيع إلا أن نتناوله دون انقطاع، هذا الكتاب يذكرنا بالكتاب النقدي الرائع لجبرا إبراهيم جبرا “الاسم”، فالكاتبان يتميزان بمستوى عال من الاطلاع على الأدب والقدرة المذهلة على تحليل الروايات بموضوعية وجاذبية وعمق.

يتميز كتاب “الشخصية الروائية” للكاتب والناقد السوري هيثم حسين، إضافة إلى تحليله الروايات بعمق وسلاسة أسلوبه وبساطته، بأنك تشعر وأنت تقرؤه، أنه كتاب “في الرياضيات أو الفيزياء”، إذ أنه يساعد القارئ كي لا يتوه في بحر تحليل ونقد الأعمال الأدبية، فيقسم الأعمال إلى أنواع حسب الشخصية وعلاقة الكاتب معها. يصرح المؤلف في بداية الكتاب بأن هناك شخوصا روائية تكون حاضرة في ذهن الكاتب قبل البدء في عمله، أي “الشرارات”، ويمكن لها أن تتحوّل من شخصيات رئيسية إلى ثانوية.

الروائي وشخصياته
إن الفكرة المهمة -كما يقول الناقد- هي أنه يستحيل أن تكون الشخصية الروائية محض خيالية، لأن الكاتب حتى لو ادّعى أن الشخصية متخيلة، فإنه يستند إلى الواقع، لكنه يقوم بعمليه فك ارتباط مع هذا الواقع. فكل شخصية تكون كالجمرة في قلب الكاتب، ولكن يجب أن يتحرّر من سطوتها كي يتمكن من تصوير العالم والكتابة عنه، وأحيانا يعامل الكاتب نفسه كشخصية مخترعة لا مخترع شخصيات كما فعل وليم فوكنر، الحائز على نوبل للآداب في كتابه “الصخب والعنف”، فأحد شخصياته يفترض والثاني ينتقد والثالث يحاول التواصل معهما، والثلاثة تركهم يتعاركون فيما بينهم حتى يستمدّ من عراكهم مادة كتابه المذكور.

أهمية روايات السيرة الذاتية هي أنها غالبا ما تكون منطلقا لإثارة الكثير من الأسئلة الوجودية والمعتمة في آن

ويؤكد هيثم حسين أن الكاتب قد يلجأ أحيانا إلى خلق شخصيات منغلقة تحجم عن البوح، كما فعل جون شتاينبك، الحائز على نوبل للآداب عام 1962، فشخصياته أشبه بغابة مليئة بالمسوخ والشياطين وقليل من الأضواء في مكان خطير، لكن شتاينبك يغامر بالدخول إليه.

أما توني موريسون الأميركية من أصل أفريقي، والحاصلة على نوبل أيضا، فهي لا تستعمل أحدا تعرفه في شخصياتها الروائية، ولا تؤسس شخصياتها على أحد، إذ تعتبر ذلك انتهاكا لخصوصية الآخرين. لكن شخصيات الألماني غونتر غراس (الحاصل على نوبل عام 1999) هي مزيج من الواقع والخيال.

والفرنسي آلان روب جرييه، شخصياته نتف من ذكريات الطفولة، ويخلط حياته بحياة الآخرين. لكن ماريو يوسا البيروفي (نوبل 2010) لا ينتقي شخصياته، لكنه يكتشفها ويقول عبارته الرائعة: أنا روائي وصانع خيال، هذا هو الأدب، الأدب هو الكذبة التي تحوي حقيقة مخبّأة، لا الحقيقة الثانوية إنما الحقيقة العميقة.

وقد يلجأ الكاتب في رأي الناقد إلى أنسنة المكان، كما فعل عبدالرحمن منيف الذي أضفى الصفات الإنسانية على المكتشفات ووسائل النقل، وكما فعلت رجاء العالم في روايتها “طوق الحمام” إذ توكل إلى الشارع مهمة السرد. وقد تتحول اللغة بحدّ ذاتها إلى شخصية روائية مستقلة أو غاية روائية تخرج عن كونها وسيلة تتبلور ككيان اعتباري نافذ، مثل روايات سليم بركات وأحلام مستغانمي؛ فمستغانمي تتغزل باللغة وكأنها تتغزل بالمحبوب.

بعض الكتاب مثل الكاتب الفرنسي باتريك بينو، يهوّن كشف النقاب عن الشخصيات الحقيقية التي كتب عنها الروائيون، وبعض الكتاب يتبرّؤون من واقعية الشخصيات ويحولونها إلى خيال، وبعض الشخصيات تصبح ملهمة يعتمد عليها الكثير من الروائيين، مثل شخصية دونجوان، التي اقتبسها موليير من الإسباني دي مولينا وأبدع في وصفها، وغيرها من الشخصيات. فالشخصية الروائية رسالة الروائي ورسوله في الوقت نفسه.

الواقع والخيال
يقسم هيثم حسين كتابه “الشخصية الروائية” إلى فصول لتوضيح وتسهيل عملية النقد الصعبة، فنجده واضح الأفكار ومستنير الذهن، معنيا بقارئه ومحترما له. إذ يزيل تماما الفكرة الملتصقة بالنقد، وهي أنه عمل صعب ومعقد وقراءته صعبة، وغالبا ما تكون غير مفهومة. وينقسم الكتاب حسب الشخصية الروائية إلى:

1- شخصية الروائي عين عصره: ويعطي مثالا عن فلاديمير نابوكوف (1899-1977) في روايته “العين”، إذ يتلصص الراوي على حياة الآخرين، والسعادة الحقيقية برأيه هي في تفحص ذاتك وذات الآخر. وكما يفعل الكاتب الأميركي هنري ميللر في روايته “أيام هادئة في كليشي” والهدوء ليس سوى غطاء لتمرير الجنون، أو أن الذاكرة تهدئ الصخب والضجيج بعد سنوات على الواقع، يعتبر ميللر من أكثر الكتاب الذين وظفوا الجنس لكشف الحياة، كما في كتابه الأشبه بسيرة ذاتية “ربيع أسود”.


الكتاب يساعد القارئ كي لا يتوه في بحر تحليل ونقد الأعمال الأدبية

2-سلطة الشخصية المستعمرة: كما في روايات نايبول الذي يدين العنصرية التي خلقت شروخا في الأرواح، وساهمت في تفكيك بنى المجتمع، وفخخت المستقبل بالأحقاد والضغائن، وفي كلمته أثناء تسلمه جائزة نوبل يقول: إن كتابته هي عن العار والأوهام الاستعمارية، فهو يبدع في وصف وتحليل معاناة أبناء المستعمرات.

3-بحث الشخصية عن ذاتها: يستشهد هيثم حسين بروائيين مثل ديفيد معلوف الروائي الأسترالي من أصل لبناني، فالخيال بالنسبة إليه هو مدماك الرواية. وبماريو يوسا في روايته “حلم السلتي”، التي تصور الصراع العالمي بين قوى الشر وقوى الخير؛ كأن بطله يرتقي طريق الجلجلة محملا بآلامه وأحلامه في تشييد العالم الذي يرنو إليه، عبر محاولة تجسيد الحلم الأسطوري بانتفاضة الإيرلنديين ضدّ المستعمر والرغبة في التحرر من العبودية.

4-رسم شخصية الفنان روائيا: ثمة تداخل بين شخصية الروائي وشخصياته الروائية، وقد تألقت السير الذاتية للكتاب، وأصدق مثال على ذلك الروائية هيرتا موللر التي حصلت على نوبل عام 2009، حيث تحكي عن تجربتها في ظل الديكتاتورية برومانيا، وتسترجع سنوات سجن أمها في معسكر للاعتقال من قبل الروس، وقد منعت كتبها وتم التضييق عليها.

وتقول “الخوف كالعنف يوجع الإنسان ويشوّهه، وحين تضطرب الحياة ويختل كل شيء فإن الكلمات تنهار أيضا”. وتبرع الكاتبة في وصف الخوف في ظل الأنظمة الديكتاتورية، غير أنها عرفت كيف تبدّد الخوف بالنكتة. وتكمن أهمية روايات السيرة الذاتية في أنها غالبا ما تكون منطلقا لإثارة الكثير من الأسئلة الوجودية والمعتمة في آن.

5-المزج بين الواقع والخيال: كما في أغلب روايات البرتغالي ساراماغو (نوبل 1988) يبرع هذا الكاتب في كشف حوادث تظل مدفونة سنوات وسنوات طيّ النسيان، ويقول “كثيرا ما ننسى ما نحب أن نتذكره”. ونذكر كذلك كويتزي (نوبل 2003) خاصة في روايته “الشباب” حيث يصوّر طموح الشباب حين خرج من كاب تاون إلى لندن، وكيف تكون الغربة حجابا ومرآة في الوقت نفسه.

إن كتاب “الشخصية الروائية” لهيثم حسين يدعو إلى إعادة النظر في النقد العربي والطرق التي ينتهجها، وهو يشكل إضافة مهمّة جدا في مجال النقد، ويحبط فكرة النقد المعقد، كما يتجنب تلخيص الروايات مثلما يفعل أغلب النقاد، بينما النقد علم وموهبة وثقافة.

عن صحيفة العرب اللندنية

© Copyright 2020. All Rights Reserved