نساء الهامش في رواية «عشبة ضارة في الفردوس»

علجية حسيني

تصور رواية «عشبة ضارة في الفردوس» ، للكاتب السوري هيثم حسين، حياة الهامش في بلدة الأكراد. وتتناول الرواية معاناة المرأة من النظرة الدونية في مجتمع الهامش. فهي لا تستطيع التخلص من تحديد الآخر لرؤيتها لنفسها وتحكّم الآخرين في حياتها. تعي كل امرأة أنها ضعيفة وهشة وغير قادرة على تحدي المجتمع، لأنها عاجزة عن تغيير مصيرها بحرية لافتقادها شروط حرية الاختيار.
يمثل أغلب النساء مصدر سخرية وتندر للآخر وتحرم من الكرامة والاحترام، لذلك تسلك كل واحدة مسارا لافتكاك بعض الأهمية وتغطية الضعف الذي تشعر به، لكنهن لا يحققن ما يطمحن إليه، ويظل هؤلاء النساء فاقدات للقيمة والقوة.

الوردة وبناتها:
رغم سيطرة الوردة وبناتها على سوق الدعارة لكسب العيش، يسهل التلاعب بهن واستغلالهن، «بدا بريندار بالصغرى، أقنعها بأنه يعبدها ولا يطيق البعد عنها. أغرقها بهداياه البسيطة وكلماته الشهوانية». يمكن شراء الوردة مقابل بضاعة تافهة ورخيصة ، «بعد تمكنه من الظفر بثقة أمها عبر أكياس من الخضار والفواكه، وعلبة عطر بدت غالية الثمن». تعلم الوردة أن سكان البلدة يحتقرنها لذلك تضطر لدفع خدمات لهم لتفتك منهم بعض الاحترام»، كانت تسد أفواههم بأعطياتها. فتشتري صمتهم، وتؤجل التصادم معهم، وتفرض عليهم احترامها وتقديرها».

ناديكا:

تُفرغ ناديكا من الصفات التي تجعلها تحظى بالاحترام والكرامة اﻹنسانية. يعتبرها رجال البلدة شيئا محتقرا يمكن تبادله مجانيا، «كانت ناديكا هبة شباب الحارة ورجالها». كما يمكن احتكارها كسلعة تجارية، «لكن خورتو احتكرها لنفسه، كما احتكر البندورة والخيار».

بهو:

بهو ضعيفة أمام مجتمع بلدة الأكراد، لأنها عرجاء ولم ينس سكان البلدة حدث هروبها مع خورتو. إذ لم يتوقفوا عن إذلالها وتحقيرها بتذكيرها بالحادثة وبعرجها. يحاسب مجتمع البلدة بهو ويهينها ويعفي خورتو من تحمل الخطا. تلجأ بهو عبر بيع ابنتها جيمي بالزواج بأبي مأمون من أجل مصلحة مادية، ولتكتسب بعض القوة والقيمة لمواجهة الآخرين. فهي تعلم أن اكتساب النقود يحميها من الإهانة وتذكيرها بأنها ناقصة لعرجها. تختار بهو النقود لتعويض النقص الأخلاقي والخلقي الذين تحملهما، «حققت أمي بهو في المنارة حضورها المنشود. لطالما اعتبرت نفسها سيدة راقية، ذات مال وجمال، في حين كان يتم التعامل معها بوصفها العرجاء زوجة الأعمى». لكنها لم تكتسب القوة والقيمة لأنها أصبحت ضعيفة أمام النقود ، «باتت تسكر بمجرد أن تشم النقود، وتنتشي بأن تنشرها على جسدها، ترقص صدرها وتغني لنفسها وهي تمارس متعتها في لمس النقود وعدها». اكتساب النقود لم يغير، في الواقع ، بهو ﺇلى امرأة محترمة وذات قيمة.

تمثل منجونة الراوية، المرأة الأكثر هشاشة وضعفا في الرواية. تصورها الرواية، شخصية غير مرئية ودونية، «لا أذكر أني ظننت يوما أن لدي مزايا ما».

جيمي:

تريد جيمي تغيير مسار حياتها لأنها كرهت الحياة في في الهامش والعتمة، « أرادت جميلة أن تغير حياتها وتصنع مصيرها». لكنها تعي عجزها عن تحقيق أحلامها بنفسها لانتمائها لعائلة فقيرة. تختار الزواج بأبي مأمون رغم فارق السن بينهما لتحقق أحلامها وتواصل دراستها، كانت تدرك أنها ستحتاج ﺇلى أبي مأمون ليلبي لها طلباتها، ويؤمن إتمام مخططها نحو شهادة البكالوريا، التي تقتضي منها التعكز عليه، لا بد من ﺇبقائه في دوره عكازا لها». لم يرفع الزواج من قيمة جيمي، رغم مواصلة دراستها، إذ ينظر ﺇليها أبو مأمون كعاهرة وتعتبر هي العلاقة الزوجية مثل عرض وطلب، وترغم نفسها على ﺇرضائه، «يعتبرها عاهرته التي يمضي برفقتها أوقاتا محدد… وبدورها كانت مسرورة بهذه الحالة، بل كنت تحرص على عدم اﻹنجاب منه، لأنها تعتبره درجة في السلم الموصل ﺇلى أحلامها، وعكازة مرحلية ستتخلى عنها بعد مدة».
تواصل جيمي تغيير حياتها لتصبح ممثلة، وفي الوقت نفسه تبقى ضعيفة وغير قادرة على دخول عالم الفن، بدون خسارات جديدة تفقدها قيمتها، لأن المرأة سلعة وشيء متبادل في سوق الفن. يمنع الرجل عن المرأة حرية اختيار الطريقة التي تبدأ بها نجاحها. نغم تصور عالم الفن كسوق وأغلب النساء يخضعن للشروط والقوانين التي يحددها المخرجون. لا يستطيع أغلب النساء دخوله بدون التنازل عن أجسادهن للمسيطرين على سوق الفن، «ثمة من تتسلل ﺇلى هذا المجال عبر سلسلة من الأسرة، تعبر من سرير ﺇلى آخر في طريقها ﺇلى الشاشة والأضواء، رأسمالها جسدها، توظفه في طريقها ﺇلى سوق الفن».
منجونة:
تمثل منجونة الراوية، المرأة الأكثر هشاشة وضعفا في الرواية. تصورها الرواية، شخصية غير مرئية ودونية، «لا أذكر أني ظننت يوما أن لدي مزايا ما». كل من حولها يسخر منها ويشعرها بالدونية والنقص لأنها دميمة، «حتى تحولت ﺇلى موضوع تسلية لبعض أهل الحارة وممن يصفونها بالجربوع والشبح والعنزة الجرباء، وغير ذلك من الأوصاف التي تمعن في إيذائها». تفتقد منجونة للحضور وإثبات وجودها، فهي مجرد تابع وخادم لأفراد أسرتها، وهو ما يجعلها غير مرئية. لا تلفت منجونة انتباه أحد ولا ينتبه الناس لوجودها، «عشت ظلا لحركات أمي وأبي وجيمي… لرغباتهم، ولم أفكر في التمرد أو تغيير الدور الموكول لي في دائرة العبث التي ألقيت في أتونها». تظل منجونة تعاني في صمت لشعورها بالوحدة والدونية وافتقادها التواصل مع الآخرين، «حتى أدمنت الشعور بالانكسار والفقد، ووصلت ﺇلى قناعة أني بكماء». لتعويض الشعور بالضعف والنقص ، تحاول منجونة اكتشاف العالم بعيدا عن عالم الأكراد من حولها في البلدة والمنارة، وتختار المطالعة ودراسة الفلسفة. تساعد المطالعة منجونة على تحقيق متعة روحية ومعنوية، وتتجاوز المجتمع الذي تنتمي ﺇليه، «قراءة ما يقع تحت يدي. واكتشف في تلك الأخبار عالما رحبا غير عالم البلدة». الطريقة التي تسلكها لتحقيق ذاتها، تغرقها في الشعور بالاغتراب والحزن، ولم تمكنها من اكتساب القوة والأهمية لتتحدى المجتمع، الذي يستمر في ﺇهانتها وعدم الانتباه لها. تنتهي في الأخير إلى اختيار الغرق للفرار من معاناة الشعور بالدونية، «لا أريد ان ينتشلني أحد من قعر حياتي، فلا شك أن العتمة التي عشتها أقسى من تلك التي أنا بصدد المضي ﺇليها والغرق فيها». يصبح الغرق وسيلة لتحقيق قيمة تفتقدها منجونة ،»لا أريد أن ينتشلني أحد من الغرق، هذه لحظة اانعتاق المطلقة التي ظللت أرنو إليها، استمتع بهذا الغرق، بهذه العتمة الجديدة. أحظى بحرية ما فتئت أحلم بها».

كاتبة من تونس

عن صحيفة القدس العربيّ

© Copyright 2020. All Rights Reserved