مع جدار اليوميات الافتراضي وداعاً للخصوصية

إنسان العصر الحديث ضحية حب الظهور والاستعراض والمديح المجّاني.

مع التطور التكنولوجي الهائل الذي غزا حياة الأفراد اليوم، بات من الصعب الحديث عن الخصوصية، التي أصبحت منتهكة كليا، كما ظهرت جلية العديد من المشاكل الاجتماعية التي ولدتها خاصة مواقع التواصل الاجتماعي لدى مستعمليها اليوميين.

هل تحوّل واقع الحياة المعاصرة إلى مرآة سوداء تكشف الدواخل المعتمة الباحثة عمّن يكشف لها خباياها الدفينة؟ إلى أيّ حدّ عبثت التكنولوجيا براحة الناس وأمانهم ودفعتهم إلى مهاوي القلق وأوقعتهم في براثن الوحشة واليأس؟ ألا يمكن القول إنّ الأسرار الشخصية أصبحت شيئاً من الماضي على اعتبار أنّ التكنولوجيا باتت فضّاحة وتظهر المرء كأنّه عارٍ وسط عاصفة محتدمة؟

هل يمكن القول وداعا للخصوصية في زمن بات فيه المرء يشعر بأنّه محاصر بالتكنولوجيا التي تضيّق عليه حتّى لتكاد تخنقه بمزاياها التي تستدرجه إلى فخاخ الإدمان عليها، بحيث يستغرب بعدها كيف كانت حياته تمضي، أو تسير قبلها؟ ألا يفترض بالمخترعات الحديثة أن تكون لخدمة الإنسان وفي سبيل إسعاده؟ أليست السعادة بحدّ ذاتها حلم الإنسان المتجدّد عبر التاريخ؟

انتهاك الخصوصية

لعلّ وصف الانكشاف هو أحد أبرز الأوصاف المناسبة لواقعنا المعاصر الذي بات فيه المرء مكشوفاً لغيره، في حركاته وسكناته، في حلّه وترحاله.. والانكشاف هذا يتحوّل بالتقادم إلى سمة للعصر وأبنائه، تتمّ التضحية بالخصوصيّة، والسرّيّة، وحتى بالمشاعر المضمرة لصالح اللهاث وراء إيقاع جنونيّ لا يهدأ من الاستدراج إلى عوالم مستحدثة مثيرة، برّاقة بطريقة عامية وحاجبة للحقائق، فتظهر المرء وكأنّه عارٍ وسط حفلة غرائبية لا تستدلّ إلى درب للتهدئة..

نجد أنّه يخرج بين الفترة والأخرى تطبيق يبادر كثيرون إلى التحذير من مخاطره على الخصوصية، وكأنّ الخصوصيّة كنز في عالم منفتح على بعضه بعضا بطريقة مرعبة، حيث يمكن للآخر معرفة ما إن كنت متاحا أو لا، والساعة التي فتحت فيها هذا التطبيق على هاتفك، أو اللحظة التي خرجت منه، وذلك من دون تجشّم أيّ عناء للمراقبة أو الاقتفاء. لأنّ الرقيب المنشود لمزاياه غدا جزءا من الحضور الشخصيّ نفسه، ومكمّلا له، بحيث فقدانه أو التخفّف منه وإلقاؤه بعيدا، يدفع صاحبه إلى خارج دائرته الاجتماعية، وقد تمارس عليه نوعا من العزلة بطريقة ما.

الخصوصية صارت مصطلحا زئبقيا، فالتكنولوجيا التي يفترض بها أن تيسر الحياة أفرزت مشاكلها وتأثيراتها

وحين يتبرّع البعض بتقديم المزيد من المعلومات عن نفسه، أو عن تفاصيل حياته وتحرّكاته، عن صوره وجلساته وتنقّلاته، فإنّه يمنح الآخرين مزيداً من الحرّية في اقتحام عالمه، والاطّلاع على تفاصيله، وتكون الخصوصية المتخيلة في هذه الحالة ضرباً من العبث أو الجنون أو الوهم المستحيل.

هناك مَن يستعرض كلّ لحظة من لحظات حياته، ويقوم بتوثيقها سواء من خلال الصور أو الفيديو، ويسعى بعد ذلك إلى كتابة تعليقات عليها، تعكس الحالة النفسية والشعورية في تلك اللحظة، بحيث يستعيض عن دفاتر اليوميات التي كانت سابقا ملاذا لأصحابها، وتحظى بأهمّية عظمى لديهم، ناهيك عن الحميميّة والسرّيّة باعتبارها تحتوي على ما يجول ببال صاحبها، وما يفكّر به، وما يوجعه أو يفرحه أو يحلم به، ومن ثمّ يجعل جدار اليوميات الافتراضيّ بديلا واقعيّا عن دفتر يومياته السرّيّ المفترض، ليكون مستباحا، ومكشوفا، وباحثا عن الرضا والسعادة في ما يفعل.

أصبحت الخصوصية في عالم اليوم مصطلحا زئبقيّا، فالتكنولوجيا التي يفترض بها أن تكون لتيسير الحياة أفرزت مشاكلها وتأثيراتها الجسدية والنفسية، وخلقت جملة من العقد المستعصية بدورها، قد تبدأ بالإدمان، ولا تنتهي بانتهاك الخصوصية، أو الارتهان لسطوتها القاهرة.

أصبح إنسان اليوم مقيّدا بالسرعة التي تجتاح عصر المعلومات، وكأنّ هذه السرعة بدورها صارت كهفاً متنقّلاً، والمرء بات مقيّدا به ومحاصرا بعتمته، أو محيطه الذي يشكّل حاجزاً بينه وبين واقعه، فكيف في المكان وليس فيه في الوقت نفسه، ومع الآخرين ومنقطعاً عنهم كذلك، وتتحوّل الوسائل التي يفترض بها أن تكون للتواصل إلى أدوات للقطيعة والتباعد، وتخلق شعورا بالإيهام أنّ التواصل على أشدّه على اعتبار أن الآخر منكشف عليه، ومنفتح عليه بكلّ تفاصيله وأفعاله وأفكاره.

الانفتاح والحذر

لا يكتفي عصر انتهاك الخصوصية بتقصّي الأفعال، بل يطالب بالكشف عن الأفكار. يبعث على التفكير في مسابقة الزمن لطرح أفكار قد تكون متهوّرة، أو غير ناضجة، بحيث يحلّ الانسياق وراء المكاشفة محلّ التأنّي والتروّي والتفكّر قبل طرح أيّ فكرة، مهما بدت بسيطة.

تعمل معظم وسائل التواصل على جعل إنسان العصر الحديث مقيّدا بالرغبة في الظهور والاستعراض، لاهثاً خلف بريق الإعجاب وتبادل التعليق والمديح المجانيّ الذي يخلو من معناه وقيمته، من شدّة تكراره بطريقة قد توصف بالفجاجة لما يصمها من سطحية وابتذال أحيانا.

عالجت الكثير من الأعمال الدرامية والسينمائية تأثيرات التكنولوجيا على حياة الناس، وكيف أنّها تقودهم إلى متاهات مظلمة، تخرجهم عن طورهم، وتدفعهم إلى اقتراف حماقات كارثية تؤدي بهم إلى التهلكة، أو تتسبّب لهم بعاهات نفسية وجسدية خطيرة، كمسلسل “مرآة سوداء – بلاك ميرور” البريطاني الذي أظهر، عبر عدّة أجزاء، ومن خلال زوايا غير مألوفة، الجانب الوحشيّ البشع لسطوة التكنولوجيا وعبثها بحياة من يرتهنون لها، أو مَن يقعون في فخاخها القاهرة.

أن ينفتح المرء على الآخرين يختلف عن منحه الإذن لهم للتعدّي على خصوصيته المفترضة، ولا يعني بأيّ شكل من الأشكال الهروب إلى قوقعة الذات والانغلاق عليها، واستعداء الجديد الذي من شأنه تيسير
سبل العيش والتواصل، بل يفترض نوعاً من المواءمة بين الشخصيّ والعامّ، ولا بأس بالعمل على تعزيز جدران الحماية الشخصيّة بمزيد من
الحرص والتدقيق، بحثاً عن شيء من راحة البال، أو شيء من الهدوء والسلام بعيداً عن ضوضاء مفتعلة في عالم هلامي يكون صدى للكهف المعتم الذي يهرب منه المرء نفسه، والذي قد يحمله في داخله كنوع من الدراما المتعاظمة في أعماقه.

© Copyright 2020. All Rights Reserved