في استحضار أغاثا كريستي لدى هيثم حسين في سيرته الروائية قد لا يبقى أحد

زارا صالح

يقدم الروائي الكردي السوري هيثم حسين في تجربته الاخيرة من خلال سيرته الروائية (قد لا يبقى أحد) – من إصدارات دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع- نموذجا آخر من الجنس الأدبي يتجاوز السيرة الذاتية إلى السيرة الروائية عبر استحضار تاريخي في زمنين مختلفين وتبادل الأمكنة بين الكاتب والروائية الانكليزية اغاثا كريستي التي كتبت قبل حوالي القرن يوميات لها أثناء رحلتها في سوريا رفقة زوجها عالم الآثار ماكس مالوان في ثلاثينيات القرن العشرين وتحديدا في مدينة عامودا حيث مسقط رأس الروائي هيثم حسين.

شاءت الأقدار أن يكون هذا الاستحضار في موطن اغاثا كريستي حيث يقيم الكاتب حاليا كلاجئ نتيجة الحرب في سوريا فيما هي كانت في رحلة عمل مع زوجها. يطرح الكاتب في سيرته الروائية أسئلة برسم تلك المفاهيم والافكار التي طبعتها بسطحية عن الحياة الاجتماعية ونمط المعيشة لسكان تلك المنطقة في تلك الحقبة والتي يحاول الكاتب هنا الاجابة عنها بواقعية وصراحة تتجاوز السيرة الاوتوبيوغرافية فقط بل تتداخل مع شخصيات ووقائع اجتماعية وأفكار يتناولها الكاتب في أكثر من مكان وبقعة جغرافية سواء تلك التي تتعلق بحياة الكاتب الشخصية ومحيطه العائلي في وطنه الأم وكذلك تلك التي عايشها في بلاد الغربة والاغتراب مع تجربته في بريطانيا حيث جدلية تعريف الانتماء والهوية, اضافة لنماذج وصور حقيقية عن حياة اللاجئين ومعاناتهم واشكاليات عملية الاندماج وصراع الثقافات مع تلك الموروثة دينيا واجتماعيا وسلوكيا ومن ثم تأثير ذلك على سيكولوجية الافراد وعلاقاتهم الاجتماعية في البيئة الجديدة.

من خلال استحضار الكاتب لبعض الرؤى والصور الشبه نمطية عن الانسان الشرقي التي دونتها اغاثا كريستي في دفتر يومياتها انذاك ومن ثم مقاربة اعادة تلك الصوراليوم بأشكال أخرى تظل مثل متلازمة تلاحق ذلك الغريب “اللاجئ”, يلج الكاتب بعيدا في مجرد مقاربة اجتماعية في زمان ومكان مختلفين, بل يذهب بعيدا في طرح قضايا فكرية جوهرية ذات بعد انساني من خلال مناصرته للقيم السامية قد لاتعرف حدود الجغرافية وتواريخ الاعوام مثل الهوية, الانتماء, الموت, الحرب, السلام, السعادة, الخير والشر, العدالة والظلم. وعندما يعرض الكاتب سيرته الروائية في هذا الكتاب فانه يحاول تخطي “عقدة” السرية التي تميز السير الذاتية عادة فتجد الانا السيكولوجي الذاتي اكثر وضوحا وجرأة في الطرح عند الكاتب الذي ينطلق من تلك الاحداث للبناء عليها في المقارنة بين الثنائيات الايجابية والسلبية وأحيانا يتداخل ذلك مع البعد الاجتماعي لتأخذ القضايا طابعا عاما بعد التحرر من القيود الاجتماعية.

بكل تأكيد هنا يمكن الاستشهاد بالعديد من الامثلة التي ذكرها الكاتب كتلك التي تتعلق بسيرة حياة جدتيه وقصة زواجهما كنموذج من عينة اجتماعية لاتخص الكاتب فقط, رغم طرحه في اطار سيرته الاوتوبيوغرافية, بل يمكن القول انها تسجل للكاتب في تجاوز السرية وتابوهات القيود والعادات المجتمعية السلبية لان القضية هنا تتجاوز الفردية كونها قضية مترسخة في البنية الاجتماعية وسلوكيات وثقافة المنطقة والتفكير الشرقي بشكل عام. صحيح ان بعض الاحداث قد وقعت في حقبة زمنية سابقة مثل قضية زواج الجدة كنمط من العلاقات التي كانت سائدة انذاك كحادثة خطف العروس والزواج على الضرة مثلا الا أن الكاتب يذهب بعيدا في معالجة قضية الخطف كظاهرة اجتماعية قد لاتكون موجودة اليوم لكن تبعاتها الاجتماعية والسيكولوجية على الشخص نفسه وعلى محيطه العائلي والاجتماعي القريب.

عندما يتزوج الجد في المرة الاولى فان فرصة رؤية العروسة بشكل واضح حصل فقط بعد الزواج حيث يسرد الكاتب “…. كان جدي قد اعجب بها ذات ليلة مر بقريتها..وهي ترد البئر حيث انعكس ضوء القمر المنعكس على الماء على صفحة وجهها فتللألأ والتمع فظن هو انها متلألئة بياضا وشقارا…” ليكتشف فيما بعد انها سمراء فيقسم الجد على أن يتزوج عليها وهي اقسمت على أن تنكد عليه عيشته كما جاء في السيرة الروائية. وحتى عندما يتزوج الجد مرة ثانية من امرأة شقراء بعد ان قام بخطفها تظل تلك المتلازمة ووصم الزوجة الاولى بالسمراء للتقليل من مكانتها وازعاجها لتصبح صفة و”عيب” وهي ظاهرة مازالت قائمة في مجتمعاتنا قد تكون بدرجات أقل. يسرد الكاتب في سياق هذه السيرة قائلا:” … انعكس ذلك على أولادها الذين أصبحوا منطوين على أنفسهم معتزلين الاخرين”.

يتذكر الكاتب أيضا انعكاسات تلك السلوكيات من خلال تجربة سيرته الروائية على ثلاثة أجيال رغم انتهاء العمل بهكذا أعراف ( كظاهرة الخطف ) وتقاليد لكن الاثار النفسية بقيت تلازم الابناء والاحفاد والمحيط الاجتماعي حتى بعد الوفاة حيث يقول: “… حتى الموت لم يستطع أن يمحو تلك الرغبة القاتلة في الاقصاء والانتقام”. هي قضية جوهرية تسبغ أغلب المجتمعات هناك يطرحها الكاتب بكل صدق وصراحة في فضاء أوسع رغم انطلاقه من تجربته الشخصية .

الكتاب جدير بالقراءة حيث يتناول جوانب وقضايا حيوية تخص القيم الانسانية من خلال تجربة قد تكون فردية لكن يمكن تعميمها خاصة فيما يتعلق بحياة اللاجئين وموضوع فهم الدين حيث يعرض الكاتب بعض جوانب المقارنة في الفهم النمطي بالنسبة للمجتمعات الغربية وصعود تيارات راديكالية تنشر خطاب الكراهية والحكم المسبق على كافة اللاجئين وبالمقابل هناك اشكالية يتناولها الكاتب وبشكل أوسع من خلال سيرته وعلاقاته مع المحيط الاجتماعي في بريطانيا وتجارب وامثلة للاجئين من دول مختلفة وطريقة تفكيرهم وفهمهم للدين وعملية الاندماج وأحكامهم المسبقة التي حملوها معهم قبل مجيئهم الى بريطانيا وانعكاس ذلك على تعاملهم وسلوكهم الاجتماعي وطريقة تفكيرهم, هذا بالاضافة الى الكثير من الاحداث والمفاهيم والاراء الفكرية التي يعرضها الكتاب وهي بالفعل مهمة وتستحق الوقوف عليها وقد نجح الروائي هيثم حسين وبجرعة من التأمل والوجدانيات والواقعية والصراحة أحيانا أخرى في أغناء هذه السيرة الروائية .

© Copyright 2020. All Rights Reserved