إبرة الرعب.. رواية الذات في فضاء مفتوح

منى الرنتيسي

بطل رواية الكاتب هيثم حسين “إبرة الرعب”، الصادرة عن منشورات ” ضفاف” ببيروت و”الاختلاف” بالجزائر، هو رضوان أو من عرف فيما بعد بـ”رضوان بن موسو اللبناني”، وهو الشخصية المحورية التي دارت في فلكها أغلب الأحداث، ذاك الشاب الذي لم ينهِ دراسته الثانوية فسِيق إلى الخدمة الإلزامية، وشاءت الصدفة أن تكون خدمته في مستوصف حيث تلقّى التمريض ليصير حرفته وعالمه الذي شكّل أبعاده بأداته السحرية التي فكّ بها رموز العالم من حوله، وسبر عبرها نفوس الآخرين.

الرحلة التي صحبنا إليها السوري هيثم حسين في روايته الجديدة “إبرة الرعب” كان للبيئة السورية والشرقية وما تحمله من تناقضات وعوالم الأثر البالغ في أحداثها، بالإضافة إلى البيئة اللبنانية التي تتشابه مع السورية إلى حد كبير.

مفتاح اللذة

غدت الإبرة أداته التي طُوّعها على غرار رغباته وأهوائه وانتقاماته فيما بعد، هو الذي لم يكتفِ بتعرية المؤخّرات ليفتن بها فحسب، بل ليسبر مكنونات أصحابها، وليحلق في عوالمهم ويكشف الكثير من الرغبات المدفونة لديهم، تلك التي طافت على سطح إبرته، فكانت فتيل اشتعالها واستيقاظها.

رضوان الذي أطلق العنان لكل شهواته على اختلاف أهوائها حيث لم يقمع أيٌا منها، بل أعطاها هامشاً كبيرًا من الحرية لبلوغ جلّ أصناف اللذّة، كانت إبرته مفتاحه لفتح الأبواب المغلقة، والولوج إلى العوالم المحرّمة والممنوعة، التي لم تكن لتقلّ أهمية لديه عن العوالم المرئية والمشاهدة في بناء عالمه الذاتيّ ورؤيته الحياتية.

يتلمّس القارئ في “إبرة الرعب” سلوك الشخصيات التي كانت مدفوعة على الدوام بنشوتها ورغباتها، فها هو الدكتور فتاح والدكتور علاوي يتشاركان شهوة المال، ليكون السلوك الطامع تجميع أكبر قدر ممكن منه، حتى إن لم تكن السبل إلى ذلك شرعية. وها هو كريزو ذاك الرجل المفتون بسرد الحكايات واختلاقها، وكان ملهمه الأبرز إلى ذلك والد رضوان “موسو” الذي عاد مشوّهاً وصامتاً ومطلقاً العنان للأقاويل والشائعات التي لا تنتهي والتي نغصت على عائلته عيشهم، وكانت السبب في بذر الحقد في نفس رضوان، الذي سارع عند عودته للقرية إلى الانتقام من سكّانها، وكانت وسيلته إلى ذلك إبرته التي لم تفلت من انتقامها أيّة مؤخرة

يضيء الكاتب بعض المتناقضات ويسلط الضوء على الفساد الذي يطال جميع المؤسسات وينعكس صداه في مجتمع يملك الهامش الكبير من المتناقضات

.

رأى رضوان لإبرته الأحقية في العقاب، إلا أنّ اللافت أن انتقام رضوان لم يترك أي أثر ولم يتمكّن أي من سكان القرية من الإفصاح عما ارتكبه الأخير، فكان الرضى والثناء على اختبار الحساسية الذي يجريه رضوان للمؤخرات قبيل وخزها يحوز القبول العام من قبل سكان القرية. لعلّ هذا الرضى يتشابه إلى حد كبير مع ما يبديه مواطنو الدول العربية تجاه أنظمتهم من صمت وهم على دراية بأنها تنهش قوتهم وحريتهم، كما ينهش رضوان مؤخرات سكان القرية، أو لعلها الدائرة الكبرى المفرغة للمصالح التي لن تبدأ عند أحد بالذات ولن يكون أحد بعينه منتهاها، خاصة إذا تعلق الأمر بالجانب الجنسيّ، وبنسوة القرية الشبقات والمتلهّفات للمسة من يدي رضوان في الخفاء والمتبجحات بالعفّة في العلن!

رواية المفارقات

يسلط الكاتب الضوء على معلم خطيرٍ في المجتمعات الشرقية يتعلق بالتعامل مع الرغبة الجنسية ككائن غير موجود أصلاً ومنبوذ إن وجد، فيكون التمارض والشكوى وسيلة مثالية جداً لتحظى إحداهّن بلمسة الخلاص والنعيم المفقود، حتى ولو جاءت من منتقم أو طامع أو سيّئ نية، طالما يُغلف المشهد العام باللياقة المطلوبة لاستمرار الدجل والنفاق الاجتماعي.


عمل يكشف التباسات الشرقي في علاقته بالجنس

يتجلى ذلك أيضاً في قصة نضال، ذاك الشاب الذي بدأ حياته كمثلي الجنس، منبوذ من مجتمعه، ارتأى والده إلحاقه بالخدمة الإلزامية التي ضاعفت من معاناته، هناك حيث التقى برضوان ووجد ضالته معه، ونزل عند مطلبه بعد أن أغدق بالمال والطاعة، إلى حين أراد نضال أن ينهي مسلسل الدجل والنفاق ويجري المصالحة الكبرى مع نفسه ومع الآخرين ويستجيب لإنسانيته التي لا تصوّر له جنسه غير أنثى فيجري عملية التحوّل الجنسي. هنا يكون الحدث الجلل الذي يفقده أهله ومجتمعه حيث جوبه بالرفض والإنكار، إلا أنه يستمر في النضال ليبرهن أحقيته ويشجع من يعانون مثل معاناته على الحذو بحذوه من خلال الموقع الإلكتروني الذي اجتهد هو ورضوان بعد لقائهما على تفعيله ليوصل قضيته.

لا يخلو المشهد الروائيّ في “إبرة الرعب” من الكثير من المفارقات والمتناقضات الحياتية، فها هو رضوان يحول القتل إلى حدث إنساني رحيم عندما يقترفه بحق أنثى فاقدة القوى العقلية تحمل مولوداً غير شرعي ومستباحة من الجميع هي “جولا” التي كان هناك الكثير من إشارات الاستفهام حول ماضيها، فوجد رضوان أن الموت أفضل خلاص لها، وأيضاً الكلية التي سُرقت من ساذج ليحملها آخر متنفّذ هنا يرى مقترفو الفعلة أنّ الأعضاء غير ذات قيمة إذا حملها من لا يملك العقل. كذلك عندما اعتُقل رضوان وطُلب منه أن يحكي سيرته، هنا أراد أن يكشف العمليات المشبوهة التي كانت تتمّ في المشافي، فبدل أن يلقى صدىً إيجابياً لاعترافاته، طُلب منه أن ينساها وأن يشكر فضل من سجّل الاعترافات ضدّهم فلولاهم لبقي منسيّاً للأبد.

يضيء الكاتب على بعض المتناقضات ويسلط الضوء على الفساد الذي يطال جميع المؤسسات وينعكس صداه في مجتمع يملك الهامش الكبير من المتناقضات. هي رحلة البحث عن الذات التي صحبنا إليها الكاتب، والتي من الممكن أن تبدأ بإبرة ولا تنتهي بعالم رحبٍ، ليكون فضاء التنقيب عن الذات في عالم لا متناهي الحدود والأبعاد.

عن صحيفة العرب اللندنية

© Copyright 2020. All Rights Reserved