حكايات التاريخ أناشيد الجحيم التي لا حياد فيها

التاريخ يظلّ أحد ميادين الرواية الأثيرة، والصاخبة، المفعمة بالحكايات والعبر، وكذلك بقصص يندى لها الجبين، قصص الجنون والانتقام، وتكون الحروب أبرز المسبّبات الخالقة للتشوهات.

كيف يقوم الروائيّ بتوظيف الأحداث التاريخية؟ هل تكون الحكايات التاريخية نقاط ارتكاز لتخييل عوالم روائية يسرّب عبرها الروائيّ آراءه وتصوّراته وقراءته للتاريخ من وجهة نظره المعاصرة؟ هل تتحوّل الحكايات إلى أناشيد للجحيم، بصيغة ما، حين يكشف الروائيّون، أو يتخيّلون العناصر، والمفارقات، والنقائض التي كانت تجسّد بنيتها وتقود أبطالها في مساراتهم الحياتية/الروائية؟

هل يستخدم الروائيون أبطالهم لمواجهة أخطاء الماضي، وتخطي عقبة الصمت، والدفع إلى مواجهة ما يمكن توصيفه بالعجز الأخلاقي المتمثل بوجوب الاعتراف بما كان، وتقديم الاعتذار بطريقة ما، تناسب روح عصرهم وقيمه؟ هل تراهم يقترحون تمردا على الصمت المطبق على خبايا التاريخ، أو حوادثه المشهورة، بكشف تداخلاتها في سياقاتها الزمنية والمكانية، والنظر إليها برؤية جديدة؟

يظلّ التاريخ أحد ميادين الرواية الأثيرة، والصاخبة، المفعمة بالحكايات والعبر، وكذلك بقصص يندى لها الجبين، قصص الخزي والعار والجنون والانتقام، وتكون الحروب أبرز المسبّبات الخالقة للتشوهات، والدفع بالشخصيات إلى جحيم يتغذى على جنون البعض منهم ورغبتهم القاتلة في الانتقام والسعي إلى تدمير الآخر بحثا عن إرضاء نوازعهم في الهيمنة والقوة والنفوذ والسلطة وغيرها من المحرّكات والدوافع.

هل يستخدم الروائيون أبطالهم لمواجهة أخطاء الماضي

تشدد البريطانية بينيلوبي لايفلي -ولدت في القاهرة لأبوين بريطانيين سنة 1933 وعاشت في مصر حتى الثانية عشرة من عمرها، وكتبت مذكراتها عن طفولتها في مصر في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين- في روايتها “مونتايجر” على أن صوت التاريخ مركّب من أصوات عديدة، كل الأصوات التي استطاعت أن تجعل نفسها مسموعة، وبعضها أعلى من الآخر، فتتشابك حكاية بطلتها مع حكايات الآخرين، وتلفت إلى أنها ستلتزم بأعراف التاريخ، وتحترم قانون الأدلة والحقيقة مهما كانت النتيجة، وأن الحقيقة مرتبطة بالكلمات، وبالطباعة وبشهادة الصفحات.

تتناول لايفلي في روايتها التي فازت بجائزة المان بوكر البريطانية سنة 1987، حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية وبعض الأحداث التي تخللت الحرب، بطريقة تتداخل فيها أحداث حياة البطلة مع الأحداث الكبرى التي عاصرتها. وتحاول تغيير الصورة الكولونيالية التي تقوم بتهميش أبناء المستعمرات، وتقييدهم بأحكام مسبقة، وتصورات نمطية لا تتواءم مع روح العصر، تفقدهم معاني الحياة والوجود، وتقلب صيغة العلاقات بينهم لصالح المستعمر الذي يقدم نفسه بدور المخلص. وسعت الكاتبة كذلك إلى تلافي ترويج أيّ تصورات تحتفي بالمستعمر وتاريخه، بل على العكس توجّهت إلى الفرد المهمش وأعادت الاعتبار إليه وإلى حياته المستلبة.

تجعل لايفلي مصر رمزا للمكان الذي يختصر تاريخ الشخصيات وتاريخ العالم معا، وتمثل من خلال استعارة تفاصيل من الماضي ملاذا للذكريات الدافئة التي تهدئ قلق الشخصية. وتشير من خلال تركيزها على مصر إلى ضرورة التوقف عن فكرة المركزية الأوروبية التي تقوم بتهميش الآخر الشرقي، والمصري هنا يكون نموذجا للآخر، بحيث يكون حاضرا بشكل لا يقل أهمية عن المركز نفسه بصيغ مختلفة، لا يحتل الأوروبي المتن كله، بل توزع المتن والهامش بين الشرق والغرب.

بطلة الرواية كلوديا هامبتون مؤرخة، تتماهى شخصيتها مع شخصية لايفلي التي كانت درست التاريخ الحديث في جامعة أوكسفورد. تقول هامبتون إنها تكتب تاريخ العالم لتنهي كل شيء بوضوح. وإنه لا مزيد من تصيد الأخطاء في تفاصيل تاريخية بعينها، وتؤكد لايفلي من خلالها على عبثية الحرب العالمية الثانية، وعبثية فكرة الحرب نفسها، عبر إظهار المخبوء والمعتم عليه في طيات التاريخ، وما يجهد المنتصر في إخفائه للوقائع والحقائق بعد توقف دوي المدافع والبدء بتسويات ما بعد الحرب.

وتقول إن الفوضوية الكونية في كل مكان، ولأن الخيوط والأحداث متداخلة ومتشابكة، فإنها تمنح شخصياتها فرصة للتعبير عن أنفسها في سياقها التاريخي، وتراها تسعى إلى إعادة الاعتبار للفرد الذي يتم تهميشه في الحرب، والذي يعد رقما ضمن أرقام ضحايا الحرب، وكأنه شيء لا أكثر، وذلك من خلال استعراض عدد من الأصوات التي تحاول إضاءة خفايا تأثيرات الحرب وتداعياتها عليهم.

وبدوره يتناول الأميركي بول أوستر في روايته “غير مرئي” فصولا من التاريخ الأميركي الحديث، حيث تدور أحداث روايته بين سنتي 1976 و2007، وينقل عبرها محطات من الطريق إلى تحقيق الحلم الأميركي الذي يتبدى مزيجا من الوهم والأسى والضياع في عالم لا يستدل إلى حقيقة الحالمين أو جوهر مرادهم ومبتغاهم، ويمضي بهم نحو جحيم واقعي يتمثل في أنشودة مأساوية.

يتنقل أوستر في عمله بين الولايات المتحدة وفرنسا والكاريبي، يعالج محنة التخبط والضياع التي يشعر بها جيل الشباب؛ الأفراد الذين لديهم إحساس بالآخر وليس المرقّمين، في أميركا، وكيف أن الواقع يفسد عليهم مخططاتهم، ويبقيهم تائهين في دوامة لا يعرفون إلى أين تمضي بهم، أو أين قد تستقر بهم في لعبة الحياة نفسها.

يستعيد أوستر في عمله أيام الحرب الفيتنامية، وكيف كان مستقبل الشباب الأميركي في خطر، وذلك في نقاش بين بطليه، يقول رودولف إن مستقبل الجميع في خطر، وبخاصة الذكور الأميركيين في أواخر المراهقة وأوائل العشرينات، ولكنه طالما لا يخفق في الجامعة، فلا يمكن للتجنيد أن يطاله قبل أن يتخرّج، ويجزم أن الحرب لن تنتهي في وقت قريب.

تظلّ الحروب، سواء تلك البعيدة، أو القريبة التي لا تزال مستعرة، دافعة بالرواية لترسم لقطات وخرائط عن حيوات غابرة أو معاصرة، وتبرز التأثر الذي لا يزال يسمها وينحو بها باتجاهات متباينة، بحسب ما تثيره لدى صاحبها.

ويبقى السؤال الذي يتجدّد مع كل قراءة لرواية تستلهم الحرب وتداعياتها: هل يقوم الروائيون بتحويل حكايات التاريخ إلى أناشيد للجحيم كي يحرّضوا على تلافي العبث الذي أوقع الأسلاف أنفسهم به في حروب مدمرة لا تزال تأثيراتها حاضرة بصيغة أو بأخرى، أم أنّهم ينسجون حكايات ترنو إلى تحويل الأسى والألم إلى متعة وأمل؟

ويظلّ حجر السؤال ملقيّا في بحر الواقع والتاريخ، ودافعا بالقرّاء والكتّاب معا لتقديم قراءاتهم لزمنهم، وللأزمنة السابقة عليهم، بحيث لا مكان لادعاء الحياد أو اللامبالاة وسط الفوضى التي تخلّفها الحروب والمآسي عبر قرون وقرون، لأنّ الحاضر هو نتاجها الحامل لإرثها ومحنها المتجدّدة بصيغ مختلفة، وهناك مسؤولية تقع على عاتق الجميع للحدّ من جنونها بأيّ وسيلة ممكنة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

© Copyright 2020. All Rights Reserved